من الذاكرة .. عن حادث الباقورة والأبطال المجهولين
مالك العثامنة
12-03-2017 01:34 PM
الحفاظ على تماسك العقل أمر شاق، و معاكسة التيار ليست أكثر من سباحة شاقة و مجهدة لا يجعلها منطقية في المحصلة إلا معرفتك أن كل هذا الجهد في السباحة العكسية سيجنبك الهبوط الحاد عند الجرف.
والرؤية دوما نسبية تختلف من عقل لآخر!!
كنت صحفيا في جريدة البلاد حين وقعت حادثة الباقورة، و كنت قبلها بسنة تقريبا ضمن معتقلي الرأي وفي عهد حكومة عبد الكريم الكباريتي الذي جرت حادثة الباقورة في عهد حكومته أيضا.
أتذكر جيدا نهار حادث الباقورة، أن رئيس التحرير الأستاذ جهاد المومني وزع المهام، و كنت أتمنى لو اختارني في مغامرة التسلل إلى قرية أبدر المغلقة أمنيا يومها، لكن الاختيار وقع على زميلة أكثر خبرة مني، و مصور صحفي أعتقد انه كان الفنان الرائع نادر داوود، وقاموا بمهمتهم و دخلوا القرية بمغامرة مشوقة جدا.
مهمتي كانت تحليل و كتابة ردود الفعل في عمان، والحكومة.. و ارتأى الأستاذ جهاد ان يوحد كل القصص في مادة صحفية واحدة توضع أسماءنا عليها جميعا.
رصد الأخبار حينها، كان يخضع لفلترة عالية من قبلنا كهيئة تحرير في البلاد، للحساسية الأمنية والسياسية والشعبية للموضوع برمته، و كثير من الأخبار المؤكدة لم يتم نشرها خضوعا لحساسية اللحظة و أجنداتها السياسية.
ومن ذلك مثلا، أن رئيس الحكومة الأردنية كان في مناسبة اجتماعية (عزاء أعتقد)، حين كان نتنياهو يحاول الاتصال به، وأنه رفض الحديث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومما تسرب عنه حسب ثقات كانوا حاضرين حينها، أنه كان محتدا من تدخل إسرائيل السافر، كان هناك حديث بأن إسرائيل تريد من الأردن تسليم الدقامسة إليها، و كان الكباريتي رافضا بشدة، ومن التسريبات حينها أيضا أنه في لحظة عصبية وتحت وطأة محاولات نتيناهو الاتصال به، قال لمعاونيه: "يعتبروا الجندي مختل عقليا و بنطلع خالصين".
وهذه عبارة لها دلالاتها المهمة في طريقة فهم و استيعاب الحادثة في العقل السياسي الأردن.
ومما تسرب أيضا، لكن بدون قرائن صلبة تثبت صحة التسريب، أن الحادثة فجرت الخلاف أكثر بين الكباريتي والأمير حسن ولي العهد آنذاك..!!
بعد الحادثة، وفي المتابعات الصحفية، علمنا أن التقارير الاستخبارية وفي التحقيقات الأولية مع الدقامسة نفسه، كشفت ان الرجل باعترافه الأولي حينها، لم يدرك ما حصل له من نوبة عصبية، ولم يذكر شيئا عن استفزاز الفتيات له..!!لا شيء بالمطلق عن أي استفزاز حسب روايات عسكرية ..وهي روايات اختفت كل آثارها بعد ذلك!
لكن..فيما بعد، ظهرت نظرية استفزاز الفتيات له أثناء صلاته في دفاع المرحوم حسين المجلي أول مرة!!
تداعيات الحادث السياسية وصلت ذروتها بالزيارة الملكية الشهيرة للملك حسين إلى أهالي القتلى في إسرائيل، وهذا كان مثار جدل، لن يتفق عليه أحد..و أنا اليوم شخصيا أحترم ما قام به الملك، ولا أعتقد انه كان سعيدا بهذه الزيارة، لكنه فعل الضرورة الذي لا نحبه ونحتاج إلى شجاعة بالغة للإقدام عليه.
اليوم أيضا، أنهى الجندي أحمد الدقامسة محكوميته، و عاد إلى أهله بخير و عافية، و قد دفع من عمره الكثير ثمنا للحظة عصبية.
في موضوع البطولة و توصيفها..
فلنفكر قليلا،
حين اعتدت إسرائيل على مواطن أردني "ملتبس الأجندات" اسمه خالد مشعل، في ذات الفترة، غضب الملك حسين إلى درجة أن اتفاقية السلام كلها كانت في مهب الإلغاء، و تم إجبار داني ياتوم أن يحضر العقار المعالج لمشعل، و الإفراج عن أحمد ياسين في استثمار سياسي عبقري للحادثة.
هذا يجعلني أتخيل أسئلة كثيرة منها :
ماذا لو جرت حادثة اغتيال القاضي زعيتر عام 1997؟
وفي المقابل
ماذا لو جرت حادثة الباقورة- الدقامسة اليوم، في ظل حكومة هاني الملقي مثلا؟
مجرد تخيل السيناريوهات المفترضة بمنطقيتها، تجعلني أرى عبدالكريم الكباريتي البطل المجهول في قضية الدقامسة، و إليه يعود الفضل في عودة الرجل إلى أهله بعد عقدين من الزمن.
أما وقد عاد الدقامسة إلى أهله و اسرته، أبارك له الإفراج المستحق.
و أقول له بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وهي التي يتداولها الأردنيون حين يخرجون من السجن: ( كفارة).