في السنوات الأخيرة تضاعفت الحالات المسجلة للانتحار لتصل الى ما يزيد على 300 % عن ما كانت عليه قبل خمسة أعوام. الحالات المسجلة ارتكبها شباب وشيوخ ونساء ورجال عزاب ومتزوجون مسلمون ومسيحيون ريفيون وحضريون.
إلى جانب الحالات المسجلة نسمع بالكثير من حالات سقوط الشبان عن أسطح المنازل وهم يصلحون لواقط الإرسال أو يقضون بعيارات نارية أثناء تنظيفهم أسلحتهم الشخصية إضافة إلى أشكال مختلفة من الوفاة التي تسجل كحوادث ويعتبر السبب فيها قضاء وقدرا.
الاكتئاب ومستوى اليأس الناجم عن البطالة والفقر وغياب الفرص والغلاء وفشل المشروعات الاقتصادية والضغوط التي يمارسها الأهل بعض من الأسباب الكامنة وراء تنامي معدلات الانتحار في مجتمع يحتفل أهله بالحياة ويقدسونها.
بالرغم من حجم التدين ووجود مستوى معقول من الترابط والتكافل الاجتماعي وغنى الثقافة الشعبية بالحكم والمقولات التي تتحدث عن القناعة والزهد والقدر والايمان والقبول بما هو مكتوب للفرد إلا أن الناس يشكون من الضغوط الاقتصادية ونقص الموارد المالية والتمييز والإهمال والتهميش وغياب الأهداف وجهل المصير وغيرها من العوامل التي تسهم في توليد الاكتئاب الذي يعتبر أحد أهم العوامل التي تفقد الإنسان الرغبة في الاستمرار والحياة.
الأشخاص الذين يعانون من الاضطرابات والمشاكل النفسية لا يتلقون الرعاية اللازمة إما لترددهم في الاعتراف بوجود المشاكل والمعاناة لديهم أو لنقص المراكز والعيادات والخدمات النفسية لهم. ففي الأردن هناك أقل من طبيب واحد لكل 100000 نسمة حيث لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين سبعين طبيبا ينظر بعضهم فيما يزيد على مئة حالة يوميا.
الوقت الذي يقضيه الأطباء مع الحالات التي تراجع عياداتهم لا يكفي لدراسة وتشخيص الحالات، الأمر الذي يدفع بالبعض إلى الاعتماد على وصفات وأدوية تسهم في الحد من طاقاتهم وتضعف من فرص تعرفهم على واقعهم وخضوعهم لبرامج علاجية تخلصهم من الحالات التي قد تدفعهم لأنهاء مصيرهم بأيديهم.
في نهاية القرن التاسع عشر حاول إميل دوركايم أن يقدم دراسة اجتماعية للانتحار مستخدما الإحصاءات والأرقام المتوفرة عن الدول الأوروبية في تلك الفترة حيث صنف الانتحار إلى إيثاري وأناني ولامعياري وقدري. وقد اعتبر دوركايم قوة أو ضعف المعايير الاجتماعية ومستوى اندماج أو خروج الفرد عن هذه المعايير محددات رئيسية لحدوث أو غياب الانتحار؛ فالأفراد الذين يندمجون كثيرا في مجتمعاتهم قد يرتكبون ما يسمى بالانتحار الإيثاري الذي يأتي على شكل تضحية وفداء من قبل الأفراد من أجل الجماعة التي ينتمون لها، والأشخاص الذين لا يندمجون في مجتمعاتهم بسبب تمركزهم حول ذواتهم يرتكبون انتحارا بسبب فرديتهم المفرطة في حين أن الفوضى وعدم وجود المعايير تؤدي إلى الانحلال الذي قد يكون سببا في الانتحار، وأخيرا يهرب البعض من الضغوط الهائلة التي يتعرضون لها بارتكاب الانتحار القدري.
حالات الانتحار التي نشهدها في مجتمعاتنا اليوم لا تخرج عن الإطار التفسيري الذي قدمه دوركايم؛ فقد شاع في مجتمعاتنا بعض أنماط الانتحار التي يظن أصحابها بأنهم يقومون بذلك دفاعا عن أفكار أو مبادئ فيقتلون أنفسهم وغيرهم، وتنامت بشكل لافت أعداد حالات الانتحار للشباب والصبايا الذين بادروا بالاعتداء على أرواحهم لاعتقادهم بأنهم خيّبوا ظن الآباء والأمهات والمحبين. على الجانب الآخر كانت حالة الفوضى والغموض وفقدان الفرص الاقتصادية والاجتماعية سببا لانتحار العشرات من الأشخاص الذين فقدوا الأمل في المستقبل وقدرتهم على تجاوز العقبات التي تحول دون وصولهم لطموحاتهم.
الأمراض النفسية والانحلال القيمي وتراجع قيمة وقدسية الحياة بسبب الحروب والصراعات وانهيار وتدهور المعايير بسبب الفوضى التي تجتاح الفضاء السياسي والثقافي والاجتماعي والقيمي عوامل يصعب الحد من تأثيرها على معدلات الانتحار.
الاهتمام بالخدمات الطبية النفسية وتحسين شروط الحياة وتفعيل برامج الصحة النفسية والتأمينات الاجتماعية عناصر أساسية لا بد من تضمينها لأي استراتيجية وطنية للتصدي لهذه الظاهرة الخطرة.