آخر القادمين من الصحافة إلى السياسة، وزير خارجية بريطانيا، بوريس جونسون. في الظاهر، المهنتان تتشابهان، وأحياناً، تبدو الصحافة مقدمة طبيعية للعمل السياسي، كما في حال ونستون تشرشل، الذي غطى الحروب مراسلاً قبل أن يخوضها رئيساً للوزراء. لكن ليس بالضرورة أن تقدم الصحافة دائماً أفضل من عندها أو أن يكون الصحافي الجيد دائماً سياسياً جيداً. بعض الأمثلة مريعة. الدوتشي بينيتو موسوليني كان صحافياً بارعاً، لكن ما أن وصل إلى الحكم، حتى أصبح ديكتاتوراً يجر بلاده إلى الحرب كما لو أنه يدعوها إلى العشاء. حوَّل إيطاليا إلى بلد استعماري سيئ الصيت، وأغرقها في أحلام أكبر منها، وانتهى مشنوقاً خلال هربه إلى سويسرا، فيما انتهت هي ذليلة ومهزومة.
جوزيف موبوتو، صاحب عصا الماريشالية الشهيرة في الكونغو، كان أيضا صحافياً جيداً بمستوى بلاده في تلك الأيام. كما كان رقيباً في الجيش أيام البلجيكيين. لكن الصحافي تحول إلى «مخبر» عند المستعمرين، وما لبث، كعسكري، أن أطاح رئيس الجمهورية، وأصبح هو، الزعيم، المواطن الأول، أي الدولة، بطل الحرية، والقائد الذي تؤيده أرواح الأسلاف. ثم صار له كتاب يجمع أقواله، أخضر الغلاف. واحزر ماذا أيضاً؟ كان ينام في الثكنة العسكرية في العاصمة! ثم قرر أن يحول قريته إلى عاصمة. وفي أوقات الفراغ، كان يكتب الافتتاحيات بتوقيع مستعار: القائد! مجرد مشابهات.
جاء شارل حلو إلى الرئاسة اللبنانية من عمل طويل في الصحف الصادرة بالفرنسية، أولاً في حلب، ومن ثم في بيروت. لم يكن أهم الصحافيين، بل كان من أكثرهم رقياً وثقافة ولماحة. وبسبب سعة الثقافة والمعرفة، كان كثير التردد في اتخاذ القرارات. والبعض قال كثير التخوف. وكان همه، كما أعلن فيما بعد، أن ينهي عهده قبل أن ينفجر لبنان في حربه الأهلية. وبسبب ذلك، كان أول رئيس يتنازل عن سيادة الدولة فيما عرف بـ«اتفاق القاهرة» مع الثورة الفلسطينية. وهو اتفاق تهرب من توقيعه رئيس وزرائه رشيد كرامي، ورئيس أركان الجيش، الدرزي يوسف شميط، ومدير عام الخارجية، نجيب صدقة.
بعد خروجه من القصر، عاد إلى كتابة مقال يومي في صحيفة «الأوريون لوجور»، يعبر فيه، بأناقة أدبية دائمة، عن مخاوف رجل مجبول بالتاريخ، ولذلك، قليل الثقة بالبشر. وأمضى سنواته الأخيرة وحيداً إلاّ من كتبه. الآلاف منها. ولم يكن يحب العزلة، لكنها قدر من يصبح «سابقاً» في لبنان. بالأحرى، في العالم.. .
عن الشرق الأوسط اللندنية