-1-
إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء. لكن من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة، وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم، أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله».
-2-
كم تزدحم حياتنا بالأسئلة، قلة منا من يجد أجوبته، كان منهم باسل الأعرج، الذي عرج بروحه إلى السماء، بعد أن أفرغ كل ما لديه من أسئلة ورصاص أيضا، ورحل!
-3-
يقول الضابط الصهيوني لأبي السعيد، والد باسل، بلكنة «المعتذر!» بعد أن أعدموه بوابل من الرصاص: قبل ما تشوف صورة الجثة عشان تتعرف عليها، لازم تكون فاهم إنها بتختلف عن صورته دائما وممكن تكون مشوهة بفعل الرصاص والشظايا، أبو السعيد عاين جثة حبيبه، وقال: الله يرضى عليه، عمري ما شفته أحلى من اليوم»!
-4-
قد يكون قلب أبي السعيد قد انخلع وهو يرى فلذة كبده على تلك الحالة، في المنزل الواقع في محيط مخيم قدورة، ولكن هو يعلم أن ما رآه لم يكن غير «لباس مؤقت» انتضاه باسل ورحل، ومع هذا فأنا على يقين أن أبا السعيد حزن كثيرا، وشق عليه أن يظهر بمظهر «المهزوم» فقال مقولته تلك بفخر بدون انكسار، كي يحرم القاتل من لذة الانتصار، وأي انتصار هو أصلا؟ جيش مدجج بالصواريخ يهجم على بيت فيه مقاتل واحد، يصمد مدة ساعتين، ولا يستسلم، بل يقاتل حتى آخر جواب، عن آخر سؤال من أسئلتهم، وأسئلتنا أيضا!
في وصية باسل التي تزين رأس هذا المقال، ورؤوسنا جميعا، ما يشفي الغليل، وما يجيب عن كل الأسئلة التي تقرع أسماعنا صباح مساء، وتشغل بال إعلامنا وقصائدنا ومقالاتنا، وتملأ آفاقنا بالهذر والفلسفة، والتأمل، وتضج بها قاعات المؤتمرات واللقاءات والنقاشات والحوارات، فابحثوا بقلوب واجفة، ولكن مطمئنة، عن الجواب في وصية باسل المختزلة جدا، والذاهبة فورا إلى حيث كبد العدو، قبل الصديق، والشقيق الذي اعتقل باسل قبل أن يطارده العدو!
-5-
المشهد الأخير الذي بدا به باسل، قبل أن تختفي جثته في «أسر» جديد، حيث تنضم جثته إلى جثث زملائه المخطوفة في الأسر، كان منظر جنود العدو وهم يسحبونه من إحدى قدميه، ويجرجرون جسده على الأرض، كأنهم ينتقمون منه للمرة الأخيرة، وينكلون به بحقدهم المألوف، فيما ترك باسل وراءه بقعة دم كبيرة، وفردة حذاء، ربما كتذكار لتزين قاعة أي «مفاوضات» قادمة، تحاول أن تستبدل الوطن بجهاز صراف آلي، تشخص إليه العيون في نهاية كل شهر، منتظرة راتب أو مكافأة «التنسيق الأمني» وهو الاسم السري للهزيمة، بكامل فجيعتها!
-6-
باسل وجد أجوبته أخيرا، كم «فردة» حذاء وكم بقعة دم تلزمنا، كي نجد أجوبتنا نحن أيضا؟
الدستور