فكر جدياً بتأسيس حزب. وإذا نجحتُ بذلك خلال شهرين فقد يسعفني الحظ وأشْبِكُه مع واحدة من التشكيلات الحزبية التي تندمج الآن فتجد من يمولها ويسدد فواتير تلفوناتها ويضمن لها المشاركة في الانتخابات على القانون الجديد الذي يشاع انه قد يصدر بصفة المؤقت بعد فض الدورة الحالية للبرلمان.
أصعب ما في إجراءات إنشاء هذا الحزب، توفير خمسمائة اسم توقّع كمؤسسين. لكن الجميع يعرفون - وقد يغضبهم ان يعرف الآخرون - بأن تجميع هذا العدد من المؤسسين ليس مهمة مستحيلة إذا توفر مبلغ 30 الف دينار لاستضافة وتكريم الخمسمائة شخص من الأقارب والاصدقاء والمعارف لضمان أخذ تواقيعهم وارفاق صور هوياتهم المدنية على طلب تأسيس الحزب.
لكن حتى هذا الرش المالي لن يذهب هدراً. فاذا نَجَحَتْ إجراءات التأسيس مع تغطية صحفية جيدة فلن يكون صعباً إيجاد مموّل محلي من رجال الأعمال / الذين شبعوا ثروة وتنقصهم الوجاهة / بحيث تتولى هذه الشخصية سداد تكاليف التأسيس وتغطية مصاريف التشغيل, وهي كلفة لا تعدل بريستيج الندوات واللقاءات ومفاوضات الاندماج ناهيك عن الزيارات الخارجية والدعوات المحلية للأفراح والعزاءات وللمناسبات السياسية والخلوات النقاشية.
المشكلة الكبيرة الثانية التي تواجه انشاء الحزب (بعد توفير نصاب التأسيس) هي العثور على برنامج سياسي - اقتصادي - إجتماعي مقنع للمثقفين وجذاب لعامة الناس. ولأن الشريحتين تستهويهما رياضة الشكوى والتذمر والصوت المرتفع، لذلك فان الجديد الذي يمكن ان يقدمه تشكيل سياسي مسبوق بأكثر من 30 حزب, هو اعتماد شعار رفضي مختصر مباشر يسهل تداوله ورفعه يافطةَ اعتراضية في وجه الجميع. وإذا كان هذا الشعار المقترح يحمل الصفة الاتهامية غير المكلفة والتي لا تنطبق عليها قوانين المطبوعات والتجمعات والعقوبات العامة، فانه سيكون شعاراً كفيلاً بسرقة آذان وقلوب الشرائح الاجتماعية بين اعمار 25 - 50 سنة.
أفضل شعار أو برنامج انتخابي للحزب الجديد هو: "وبعدين؟!" هذا الاسم المقترح فيه جاذبية شديدة: إعلامياً هو بسيط وتسهل كتابته والتوقيع به باللغتين العربية والانجليزية. وفيه أيضاً مذاق محلي... تماماً مثلما هي حركة "كفاية" في مصر، وتيار " حلّوا عنا" في لبنان، والتشكيل الطلابي الجامعي الأخير الذي تحرك تحت شعار
" ذبحتونا " ثم لم يستطع ان يتابع حسب البرنامج المقرر له. كلّها تشكيلات تختصر برامجها بكلمة واحدة قريبة من المزاج الوطني العام.
وجه الجاذبية الآخر لحزب " وبعدين؟" هو أنه يمتلك أجندة جاهزة لها ما يعضّدها في الثقافة العامة, سواء ثقافة النخب والدواوين السياسية في عمان الغربية أو ثقافة موظفي الحكومة الحاليين والمتقاعدين، وأيضاً ثقافة الشباب في نوادي الرياضة والانترنت وكفتيريات الجامعات. كلهم يشكون ويتهمون ثم يكتفون بممارسة هذه الطقوس التي تحفظ درجة حرارة المزاج العام في حدود العكننة والاستنفار الهجومي.
ومثل كل الأحزاب والحركات والتيارات السياسية "الإصلاحية"التي تكون لها برامج محلية وقومية تغطي الجوانب السياسية والاقتصادية، فان حزب " وبعدين" يمتلك هذه الأجندة التي تخاطب قضايا عالقة لأشهر او سنوات او لعقود عديدة. قضايا عالقة تمسّ حياة عموم الناس وتنتظر البت, لكنها تخضع للتأجيل ولشراء الوقت. ومجرد المطالبة بالانتهاء منها لوضع الأمور في نصابها المفترض, فان ذلك سيتحرش ايجابياً بعواطف الشارع وسيشكل ضغطاً على السلطات التشريعية والتنفيذية, كما سيتحول الى عصا بيد المنتظرين دورهم في التشكيلات الحكومية وذلك لتسريع التغيير أو التعديل الوزاري.
في الأجندة القومية, فان شعار "وبعدين؟ " سيمنح هذا الحزب قوة الحديث في القضايا العالقة بدول الجوار / فلسطين والعراق ولبنان / . ففي هذه الاقطار الثلاثة - على الأقل - مشاكل داخلية (هي في حقيقتها معادلات اقليمية ودولية) وكلّها مشاكل ساخنة قابلة للتوسع وللضغط علينا في الاردن ضغطاً يزيد في العبء الاقتصادي وفي تأخير برامج الاصلاح والتغيير. ولذلك فان رفع هذا الحزب لشعار "وبعدين؟ "أمر مقبول وجذاب بل ضروري. فالأجيال الاردنية الثلاثة الأخيرة عاشت وماتت وهي تنتظر استقرار الأوضاع الاقليمية التي بطبيعتها تنعكس فوراً وبقوة على المجتمع المحلي. وحين يقف الآن من يرفع صوته بالتساؤل الاتهامي الاستنكاري " وبعدين؟ " فانه سيكون يتحدث باسم الأجيال السابقة وأيضاً باسم الجيل القادم الذي انطفأت مرارته السياسية في سن مبكرة جداً.
واذا توفّر لحزب " وبعدين؟ " منظرون ومتحدثون اكفياء، فانهم سيفتحوا ملفات سياسية وشخصية للعشرات بل والآلاف من السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال وغيرهم ممن تحمّلوا مسؤولية الإطالة بعمر الأزمات العالقة وبترحيلها لتبقى هذه المنطقة مستنزفة ومقعدة باستمرار. ستتوفر للحزب ادبيات خلافية تُذَكّرنا بأدبيات الأحزاب العقائدية في أيام عزّها الآفل.
لكن الأكثر تشويقاً في شعار " وبعدين؟ " هو الأجندة الداخلية لهذا الحزب فبالإمكان ايراد ما لا يقل عن خمسين قضية أو ظاهرة أو موضوع او مشكلة محلية ما زالت عالقة أو مستحقة وتنتظر الحلّ. لا نقصد بذلك فقط برامج الاصلاح السياسي والاقتصادي وقرارات الخلوات ومشاريع القوانين المفصلية في الحياة العامة. فهناك ما لا يقل عنها أهمية وتأثيراً في العقل المؤسسي الذي يفترض أن يضمن تقييم أداء المؤسسات الرئيسة ابتداء من الحكومة والبرلمان مروراً بالبنك المركزي والسوق المالي وانتهاء بالجامعات والتدريب المهني وغرف الصناعة والتجارة والهيئات الشبابية.
شعار "وبعدين؟ " يصلح تماماً لحزب إصلاحي بشرط ان يكون أُفقه او سقفه مرتفع، ولديه من الكفاءات ومنهجية العمل المؤسسي ما يؤهله لوضع قوائم بالقضايا العالقة، وإجراء البحوث والاستقصاءات حول أسباب تعليق وترحيل هذه القضايا . وسيصل الإنجاز ذروته إذا استطاع هذا الحزب أن يضع معايير ومعادلات دقيقة تحسب التكاليف التي تحمّلها البنيان الوطني في جوانبه السياسية والاقتصادية والأمنية) جراء تأجيل حل تلك القضايا وترحيلها من حكومة لحكومة ومن دورة برلمانية لأخرى ومن مجلس إدارة لآخر. وإذا توفر للحكومات وللمجالس البرلمانية وللهيئات العامة وحتى مجالس الادارة للشركات الخاصة، من يحاسبها على ادائها بمنهجية علمية, ويُقدّر تكاليف ما تكبّده المال العام من خسائر جراء ثقافة ترحيل القضايا وسياسات شراء الوقت، فان شعار " وبعدين؟ " سيشكل نقلة نوعية في العمل المؤسسي وفي عقل الشارع الاردني ومزاجه دائم التوتر والتشكك.
شعار " وبعدين؟ " كعنوان للحزب الذي لن يجد من يتولاه، يعني ايضاً: الى متى؟ لماذا حتى الآن؟ ثم ماذا؟ كيف حصل هذا؟ واسئلة اخرى عديدة هي من طبيعة الحياة الديمقراطية.
mustafa@albaddad