«الحرس الثوري» وجه إيران الحقيقي
راشد صالح العريمي
06-03-2017 06:09 PM
احتل الجنرال محسن رضائي، القائد الأسبق للحرس الثوري الإيراني، الأمين الحالي لمجلس تشخيص مصلحة النظام، مكاناً في أخبار هذا الأسبوع بتصريحين يعكسان معاً صورة عن بعض ما يجري داخل أروقة الحكم في طهران، يتعلق أولهما بما وصفه بـ «انهيار إيران من الداخل»، وثانيهما بتهديده الولايات المتحدة بأن إيران ستجبرها على تنفيذ تعهداتها في الاتفاق النووي.
على رغم أن رضائي يشغل منصب أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام منذ عام 1997، وهو أحد مؤسسات الحكم التي بُنيت بطريقة معقّدة لتضمن سيطرة نظام الولي الفقيه على مفاصل الحكم، فإن الوصف الأكثر التصاقاً به هو قائد الحرس الثوري سابقاً. ولا يأتي هذا من فراغ، فالحرس الثوري ليس مؤسسة يلتحق بها منتسبوها لتكون محطة في حياتهم المهنية، بل أيديولوجية متشددة تحكم الشخص وتبقى هوية له مهما تنقّل في وظائف الدولة، وغالباً ما يصبح «مندوباً» للحرس في أي مكان يحل به، حاملاً معه التطرف المغلف بقداسة دينية، والمزايدة على أي صوت للتعقل والرشد باستخدام الشعارات الثورية الزاعقة.
وفي تصريحه الأول، قال رضائي الإثنين الماضي في خطاب عام: «إن سوء الإدارة والفساد والانحرافات أشبه بقنابل موقوتة، وإذا لم نواجهها فإن إيران ستنهار من الداخل». والفساد والفشل والتردّي الإداري العام ليس بالأمر الغريب في إيران، ونادراً ما تخلو ساحات المحاكم من قضايا للتربّح وسوء استخدام السلطة وسرقة المال العام التي يتورط فيها كبار مسؤولي الدولة وقادتها. وتحتل إيران مرتبة متأخرة في تقرير يخص مستويات الفساد تصدره منظمة الشفافية الدولية، وهو تقرير يحظى بصدقية كبيرة، إذ حلت إيران في المرتبة 136 من مجموع 175 دولة شملها التقرير الأخير للمنظمة.
وبصورة عامة فإن الحديث عن ضعف إيران من الداخل ليس بالجديد، فالمؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل إيران مثيرة للرثاء، وسبق أن كتبتُ وكتب غيري عن هذا الأمر، لكن صدوره هذه المرة عن شخص مثل محسن رضائي يعني الكثير.
تحدث رضائي كذلك عن أن «المسؤولين يجب أن يهتموا بالداخل بقدر ما يهتمون بتوسيع نفوذ إيران الإقليمي»، وهو هنا يستخدم بصراحة ووضوح كلمة «النفوذ».
وكما هو جليّ، فإن رضائي لم يدعُ إلى تقليل الاهتمام بتوسيع «النفوذ» أو نقل الاهتمام بالداخل على حساب الخارج، كما تبادر إلى أذهان بعض من تناولوا حديث رضائي. والحقيقة أن كلمة «النفوذ»، على رغم أنها ذاتها ليست بالكلمة المقبولة، هي تعبير مخفف عن كلمات أو معانٍ أدق مثل «الهيمنة» أو «التدخل» أو «السطوة».
يرتبط بحديث رضائي حوار تلفزيوني للجنرال سعيد قاسمي، انتشر قبل أيام في الإنترنت. وقاسمي قائد آخر من قادة الحرس الثوري، يتسم بأنه أكثر صراحة في إعلان الوجه الإيراني الحقيقي، وهو يعرب في اللقاء عن رغبته في أن يقاتل شخصياً في اليمن، موضحاً أن من الأمور الطيبة أن يكون الإيرانيون في سورية مدافعين عن «حرم السيدة زينب»، لكن الهيمنة على باب المندب، كما يرى قاسمي، جزء من «الدفاع عن حرم السيدة زينب»، بل إن قاسمي يدعو أيضاً إلى القتال في مضيق «جبل طارق». وهذا الحديث المهووس يعكس الرغبة الأصيلة لدى الحرس الثوري، وهو وجه إيران الحقيقي، في السيطرة على العالم العربي كاملاً كما يرسمه المثلث الجغرافي الواقع بين باب المندب ودمشق ومضيق جبل طارق.
واللافت في حديث قاسمي أنه يتحدث عن «سقوط باب المندب في يد الشيعة»، متجاوزاً فكرة المواطنة إلى الطائفة، ومؤكداً أن الشيعة في كل مكان جزء من إيران. ولم يتردد قاسمي في أن يقول ساخراً إنه من الجيد أن تقول الحكومة الإيرانية إنها لا شأن لها بالأمر، وإن يمنيين هم من قاموا بذلك، ولكن هل هناك من لا يعرف الحقيقة؟
المشترك بين حديث قاسمي وحديث رضائي هو الإشارة إلى الفساد في إيران، وإذا كان رضائي تناول الفساد السياسي والإداري فإن قاسمي تناول الفساد الأخلاقي، مشيراً إلى «المنحرفين من رجال حكومتنا الذين يسهرون مع النساء»، وأن هؤلاء هم المؤمنون بفكر التصالح الذي يُعدُّ ضعفاً. ومن هنا يمكن فهم حديث رضائي في إطار المزايدة وتسجيل المواقف، وحصار السياسيين في دائرة الاتهام، ومنع أي صوت غير صوت «الحرس الثوري» بتطرفه وهوسه من الظهور. ولذا أعتقد أنه يجب النظر إلى حديث رضائي من هذه الزاوية أكثر من سواها، وأنه وإن أوضح حقيقة الهشاشة الإيرانية وقابلية الدولة للانهيار والسقوط، يدخل في باب تغليب نبرة التطرف والتشدد، وتهديد كل من يفكر بغير طريقة «الحرس الثوري» داخل إيران.
التصريح الثاني لمحسن رضائي هذا الأسبوع جاء تعقيباً على خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الكونغرس الثلثاء الماضي، الذي قال فيه إنه فرض عقوبات على شخصيات وشركات إيرانية، وإنه سيواصل تحذير إيران. فكتب رضائي في موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» قائلاً: «إن تحذيراتكم هي عبارة عن حيل سياسية بغية التنصل من تعهداتكم في الاتفاق النووي، كن على ثقة بأننا سنقوم بعمل يجعلك تنفذ جميع تعهداتك في الاتفاق النووي بدلاً من التحذير».
التهديدات العلنية المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة ليست جديدة، واعتادت إيران التصعيد في حديثها المعلن إلى واشنطن، واتخذت منه وسيلة للإيحاء بالقوة والمنعة، على رغم أنها تقدِّم على الدوام إشارات ودّ تحرص على إخفائها، ومع ذلك يجب أن نتوقع جديداً، فدونالد ترامب، على رغم اللهجة الهادئة في خطابه الأخير، لا يبدو عازماً على ترك إيران تهنأ بما غنمته بفضل التراخي والحسابات الخاطئة لإدارة أوباما، وإيران لا تبدو مستعدة تماماً لمثل هذا التحول، وهي تخفي ذلك باللهجة العدائية وإظهار الاستعداد للمواجهة، وهنا مكمن خطر يجب أن تستعد له دول الخليج بعد حديث محسن رضائي في شكل خاص.
من المؤكد أننا في الخليج مستعدون لمواجهة سلوك إيران الذي لم يعد غريباً، وأن لدينا وسائل للردع وللرد، لكن تحذير رضائي من «عمل» يجبر ترامب على إنفاذ الاتفاق النووي قد يحمل في طياته نيات إيرانية بخلق بؤرة جديدة للتوتر والفوضى في المنطقة، من طريق الأذرع والميليشيات والواجهات السياسية التي تتخذ قراراتها بناء على ما يخدم مواقف طهران ويخفف من مآزقها في اللحظات التي يشتد فيها طوق الحصار.
وقد يصل الأمر إلى إطلاق سلسلة غير مسبوقة من العمليات الإرهابية لمناطق ومنشآت حيوية، أو إذكاء صراعات طائفية تجر وراءها مواجهات وصدامات في أكثر من مكان، أو تهريب أسلحة نوعية إلى ميليشيات تابعة لها لتستخدمها ضد فصائل وجماعات أخرى بما يكسر توازنات قائمة، أو حتى العمل على إشعال حرب في واحدة من الدول التي تمتلك فيها نفوذاً.
إن الجوار العربي والخليجي هو الساحة التي قد تنفذ فيها «العمل» الذي هددت به، لتربك حسابات ترامب وتؤجل المواجهة المزمعة أو تُجبره على التعاون معها، وهو لا يحدث إلا في ظروف غير طبيعية، كما في حرب العراق عام 2003 على سبيل المثال. ومثل هذه الاحتمالات تحتاج من دول الخليج إلى مزيد من التحسب والتأهب، ووضع الخطط لمواجهة الشطط الإيراني الذي قد ينجم عن دقة الوضع الذي تجد طهران نفسها فيه الآن، بدءاً من القدرة على ردع إيران عن تنفيذ خطط معينة لإثارة مزيد من الفوضى، وانتهاء بتوجيه ردود حاسمة وفورية على أية خطوة إيرانية تتجاوز خطوطنا الحمراء.