تلك هي بغداد ، تأتينا اليوم في التاسع من نيسان ، يوم سقوطها بيد الاحتلال الاسود الذي جلب معه القتل والدمار ، والفتن الداخلية ، وتقطيع اوصال العراق ، والانتقام للسبي البابلي ، عبر قتل الاف العراقيين يوميا بأيدي مجهولين ، ومضللين ، ومعروفين ايضا ، تلك هي بغداد ، بغداد التي تحترق.. ونحن نراقب المشهد ببلاهة غريبة ، فلم يعد يؤثر بنا سيف ولا سكين ، من كثرة الطعنات في الظهر العربي في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها من ، مدامع ، ومذابح لا تتوقف.هذا العالم العربي يكذب على نفسه كل يوم الف مرة ، حين يسمي الاشياء بغير اسمها ، فيسمي الاحتلال الامريكي ، تدخلا ، ويسمي القتل الامريكي للشعب العراقي ، ملاحقة للمتطرفين ، ويسمي سرقة العراق من اهله وعروبته ، تطبيقا للديموقراطية ، ففي مثل هذا اليوم سقطت بغداد بيد الاحتلال ، والقصة من اساسها هي الانتقام من العراق ، جراء السبي البابلي ، حين سبي الاف اليهود مشيا على الاقدام من فلسطين الى العراق ، وهي ايضا قصة الانتقام من العراق في تاريخه واكراده الذين انجبوا صلاح الدين الايوبي القائد المسلم الكردي الذي طرد الصليبيين من فلسطين ، وعلينا ان لاننسى ان عقيدة الانتقام هي عقيدة عسكرية ، موجودة في كل الحضارات ، ولدى كل الشعوب ، وحتى المجاميع البشرية ، والحديث عن السلام واهميته ، وحوار الحضارات ، هو في حقيقته ، الغاء لعقيدة الانتقام لدى العرب والسلمين ، لصالح بقاء الانتقام كعقيدة لدى دول وامم وشعوب ومجاميع اخرى.
ليس الانتقام فضيلة ، غير انني اود ان اقول ان الانتقام ليس دليلا على الحقد البشري الا في الحالات الفردية والشخصية والعادية بين الناس ، لكنها بين الدول والشعوب ، تعد جزءا من العقيدة الوطنية والعسكرية ، واذا كنا نحن ندعي اننا من اهل التسامح ، فكيف سيصمد هذا التسامح امام عقائد اخرى وشعوب اخرى تمارس الانتقام على قضايا عمرها الف عام وربما ثلاثة الاف احيانا ، وهل الرد على عقيدة الانتقام ، يكون بمزيد من الانبطاح والاستسلام ، وادخال العدو الى فراش اولادنا بذريعة الرقي والحوار ، بل أي حوار هو هذا مادام هو على حساب الحقوق الاصلية لكل امة؟
ما يجري في العراق اليوم ، في ذكرى احتلالها ، هو استدعاء غربي ويهودي لتلك الثأرات القديمة ، في بابل وفلسطين ، على يدي نبوخذ نصر وصلاح الدين الايوبي ، وهو انتقام بأثر رجعي من العراقيين احفاد وشعب القائدين ، وهو ادارك كذلك ان في هذه الامة حواضر تاريخية ناهضة ومحددة ، اذا تم تدميرها تنتهي الامة بعد ذلك ، وهي العراق وسوريا ومصر ، وقد احتلوا الاولى ، وعينهم على الثانية ، وكبلوا الثالثة بالمعاهدات والديون والمصائب الداخلية ، لمعرفتهم ان في هذه الحواضر الثلاث ، سر نهضة الامة ، فاذا تهشمت فعلينا ان نقرأ على العالم العربي السلام.
لا ادعو الى احياء عقيدة الثأر والانتقام في حياتنا ، ولكنني احذر من عقيدة جديدة تطل علينا ، ملتبسة بالمعسول من الكلام ، حين يتم الحديث عن السماح والتسامح ، من اجل تحويلنا الى كائنات بلا غيرة ولا ضمير ، بذريعة قبول الاخر والحوار معه ، فيما هذا الاخر ، يقتل اولادنا ويحتل بلادنا ، ويسرق نفطنا ، ويعتدي على النساء والاطفال ، ويقصف المساجد ويهددها بالهدم ، فأي قيمة بعد ذلك تكون للنسيان والتسامح ، ما دامت الحضارات الاخرى والشعوب الاخرى ، والمجاميع الاخرى التي باتت تسمى شعبا اليوم ، تعيش كلها على عقيدة الانتقام.. تنتقم منا في اليوم الف مرة ، وبعضنا يسلم رداء امه الى الغريب حتى يصنع منه رايات انتصاره علينا.