المجتمعات حين تأكل نفسها .. !
حسين الرواشدة
02-03-2017 01:05 AM
هل يمكن أن يصل المجتمع – أي مجتمع- الى درجة ان يأكل نفسه بنفسه ؟
هذا السؤال خطر الى بالي حين صدمتني “ صرخات “ الانتحار التي تصاعدت في مجتمعنا، واخرها انتحار اربعة اشخاص امس في يوم واحد، قلت : اذا كان هؤلاء الذين اختاروا الموت بعد ان ضاقت بهم ظروف الحياة قرروا ان يأكلوا انفسهم، فما الذي يمنع المجتمعات ان تأكل نفسها ايضا، وما الذي يدفعها الى ذلك ؟، هل هو الاحساس باليأس والقنوط ام هي الرغبة في الانتقام من كل شيء حتى من الذات ؟
لا استطيع ان اجزم بأي سبب من الاسباب، فظاهرة الانتحار التي تصاعدت في مجتمعنا ( 116 شخصا في العام الماضي و 45 منذ بداية هذا العام ) لم تحظ بما تستحقه من دراسة ومتابعة، لا من قبل مراصدنا العلمية في المجال الاجتماعي، ولا من قبل الجهات الرسمية المعنية، لكن المؤكد ان ثمة اسبابا اقتصادية واجتماعية ونفسية تغذي مثل هذه الظاهرة، وما لم نضع ايدينا عليها فان الظاهرة ستتعمق اكثر، وربما ستصبح خيارا سهلا لدى فئات عديدة لاسيما الشباب الذين انسدت امامها ابواب الامل او انطفأت لديهم الرغبة في الحياة.
المجتمعات التي يصيبها الاحباط لا تنتحر كما فعل هؤلاء الاشخاص، ولكنها تنتقم من نفسها باشكال مختلفة، او انها - ان شئت الدقة - تبدأ “ تأكل “ نفسها، تماما كما فعلت شخصية “اريسختون “ الاسطورية حين ادركته لعنة الجوع، او كما تفعل بعض الكائنات الحية حين تدافع عن ابنائها من خطر داهم.
لقد حدث ذلك في مجتمعنا، فثمة اب في لحظة يأس يأكل زوجته واولاده، وزوجة تخلصت من زوجها وابنائها بالسم، وابن ذبح امه دون ان يرف له جفن، هؤلاء داخل الاسرة الواحدة اكلوا انفسهم، اما في شوارعنا فلا تسأل عن الاف الحوادث التي يأكل من خلالها الناس بعضهم، ولا عن الذين يتعرضون للسلب والنهب، ولا عن الذين يقعون في “فخ” مروجي المخدرات وتجارها، ولا عن الذين يتربص بهم بعض التجار الذين لا يخافون الله فيخطفون منهم ارزاقهم.
حين تسللت الى مجتمعنا عواصف الكراهية وتغلغلت فيه، صارت مثل هذه المشاهد مألوفة للاسف، واصبح احدنا يخشى اقرب الناس اليه، فقد تراجعت قيم الاخوة والجيرة والعيش المشترك، لمصلحة الصراع على المكاسب والخوف من المفاجآت، والحذر والاحتياط مما تخفيه الضمائر، وبالتالي انتشرت الانانية وامتلأت الصدور بالاحقاد والضغائن، وسادت ثقافة النميمة والخديعة والنفاق.
وراء كل هذه الظواره التي تدفع المجتمعات لكي تأكل نفسها، تحولات اجتماعية قلبت قناعات الناس وافكارهم، وكرست انماطا جديدة من المفاهيم، سواء على صعيد التدين المغشوش او نهم الاستهلاك او قلة الذوق او التقاليد والمراسيم والعادات غير الحميدة، هذه كلها افرزت حالة من الاحساس بالقهر احيانا، وباستقواء البعض على بعضهم احيانا اخرى، كما افرزت - وهنا الاهم - طبقات جديدة بعضها تسلل الى “ الثراء “ في غفلة عن عيون المجتمع، وهذه تشكل اقلية، فيما تعرضت الطبقة الوسطى التي تشكل قاعدة المجتمع لاصابات عديدة افقدتها قدرتها على التوازن.
حين ندقق في مرآة مجتمعنا في كل تفاصيلها سنجد ان ظاهرة الانتحار التي افزعتنا، ليست الا صرخة في فضائنا الاجتماعي المزدحم بالصرخات، بعضها نسمعها وبعضها الاخر لا يصلنا، بعضها يستفزنا ويستنفر جهودنا احيانا، وبعضها لا يثير اهتمامنا ولا يحرك فينا ساكنا.
فيما مضى كنا نشكو حين تأكل “ الثورات “ ابناءها، لكن الاخطر من ذلك كله هو ان تأكل المجتمعات نفسها، ويلتهم الناس بعضهم بعض دون ان يرف لهم جفن، حين يحدث ذلك للاسف تصبح المدن مفتوحة الاعين لكنها لا تبصر، وتتحول الشوارع الى “ افواه “ تلتهم المارة، وتجف المشاعر والاحاسيس الانسانية لحساب “ لعنة “ الجوع التي تطارد الجميع، ومواسم القحط التي يعز فيها المطر، وينتشر فيها الجراد.
الدستور