لم تكن معرفتنا بطاهر المصري, دولة رئيس وزراء المملكة الأسبق, معرفة المواطن بالمسئول الذي قد يتغير مع تبدل الأيام, عام 1991م, لأننا من نوع من المواطنين المسكون بشغف المتابعة والتتبع السياسي, الذي أوجب علينا التعمق في علوم السياسة بحثا ودراسة.
ولأن الأردن الذي نسمو كشخوص بسمو رايته الهاشمية العليا, فإننا قد صرنا مسكونين أيضا بحالة من متن التنافس العربي والإقليمي والدولي الخلاق, الذي لا يدع مكانا إبداعيا إلا ويكون للأردن فيه موطئ, وهي حالة تنمو وتكبر برسم الانتماء للبلاد الجاد والولاء العميق لسيدها الأمين.
وهو ما جعلني أفتش كثيرا في أفكار سياسية كانت محط تداول في أوقات كان رجالها في موقع المسؤولية, فخفت بريقها مع تداول المواقع وتغير الوجوه؛ ولكنها تبقى حاضرة لأنها جزء أصيل من مراحل, هي من تاريخنا السياسي الحديث, كما أقصد تماما في هذا الموضع, مرحلة تولي دولة رئيس الوزراء الأسبق, طاهر المصري, وما بعدها, لأنه رجل دولة وفكر وسياسة بامتياز.
لفتني قبل شهور, مقابلة أجراها دولة الأستاذ طاهر المصري, مع قناة الجزيرة لمدة قاربت على الخمسين دقيقة, في برنامج زيارة خاصة, الذي يتيح للمشاهد التعرف على الجوانب الأخرى من شخصية الضيف, غير الرسمية التي ترتسم على شاشات التلفزة وصفحات الصحف الأولى, فيظهر فيها الضيف إنسانا, والسياسي أديبا أو فيلسوفا أو مفكرا, ما دام يحمل فكرة تستحق التوقف عندها باهتمام, والبحث فيها, كما كان مع طاهر المصري في البرنامج المذكور.
فالرجل الذي يؤمن بوحدة الضفتين الشرقية والغربية, انسجاما مع قناعات شخصية, نمت معه منذ تشكل وعيه السياسي, بعد أن شهد الوحدة الأردنية الفلسطينية عام 1950م, وما تبعها من أحداث عديدة منها ثورة 23 يوليو في مصر، وتولي الرئيس جمال عبد الناصر مقاليد الحكم في مصر, وجميع ما تلاها من أحداث كتأميم قناة السويس وانقلابات العراق, مرورا بحرب الأيام الستة ونكسة عام 1967م, لا ينكر أن قناعات بضرورة الوحدة، قد تبلورت في قريحته السياسية كما يفهم من قوله, يعتقد بها أن وحدة الضفتين الشرقية والغربية عام 1950م, قد شكلت تحديا لاتفاقية سايكس بيكو. وهو لا زال يؤمن بضرورة استمرار هذا المفهوم, الذي يستحق الدراسة من جديد, في ظل أصوات داعية لهذا الخيار, من كلا الاتجاهين الشقيقين التحاما لا إقحاما, في فلسطين قبل الأردن.
كان هناك قول سياسي, مأثور منذ ما يزيد عن ستين عاما, يقول ولا يدعي أن الأردن طائر ذو جناحين, وهو ما جعل من وشائج العلاقات بين بلدينا ـ الأردن وفلسطين ـ, تنمو في إطارها الطبيعي, اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا, لتعطي المؤشرات الكافية, كي يستدل من خلالها أي عاقل, ليعطي حكما دون مغالاة, يقضي بصميمية وحميمية الوشائج والعلاقات التي تربط بين الشعبين, التي جاءت في قالب انسيابي النشأة, وتلقائي التكوين. وهو ما يلتقي مع ما قاله دولة رئيس وزرائنا الأسبق, طاهر المصري, من تنظيرات ترتقي إلى هذا المحمل الجاد, الذي نظن كل الظن, أن الأيام القادمات, ستعيدنا إلى دراسته من جديد, وإعادة تأمله وحسابه بحواسنا السياسية الخمس, وبنفس اصطلاحات وتعبيرات طاهر المصري, الذي كان واعيا ومدركا لكل ما يقوله.
كثيرة هي الحسابات التي يجد الأردن نفسه, بحكم موقعه الجيوسياسي الحساس, مضطرا للأخذ بها وتفصيلاتها عن قصد توخي المحاذير والضرر, والخروج بأفضل خيارات المتاح. وليست صدفة, وإنما هي من مفاعيل القدر, أن يكون الأردن واقعا بين فكي, العراق المتقلب بأحداثه وتطوراته التي تلقي بظلالها على المملكة, وفلسطين التي يشاركها أطول حدود له مع دول الجوار, قبل وبعد الاحتلال, وما للبْعد من تبعات وأعباء أحيانا, وأحيانا أخرى ضرائب, وكثيرة هي الأحيان التي دفع فيها الأردن, توجبا وتفضلا, ضرائب الجوار مع الأرض المحتلة ودولة الاحتلال. لنجد أنفسا في وحدة مصير مشترك, مع الأشقاء الفلسطينيين, نتأثر ونؤثر, ووحدة عادات وتقاليد, وفي فترة كانت شبه وحدة اقتصاد, وقبل كل شيء وحدة مجتمع وموقف, ووحدة جغرافيا وتاريخ,,, وكلها من دواعي قراءة مشهد وحدة الضفتين, في ظل التداعيات السياسية الحاصلة في الشقيقة فلسطين, التي نشهد فيها انسدادا للأفق أمام الحل كاملا, فيما يرانا الكثيرون جزء من الحل على المدى البعيد, فإن كانت هناك رؤية, فلتكن بحدودها العليا رؤية أردنية فلسطينية مشتركة, ولنستعد لهذه الرؤية, وفق أفكار للعديدين الأخيار, ومن ضمنهم, السيد طاهر المصري.
لقد كان طاهر المصري عضوا في مجلس النواب, لأربع فترات, ورئيسا له لمرة واحدة, ورئيسا للجنة الشؤون الخارجية بالمجلس لدورتين وعضوا في مجلس الأعيان, كما كان سفيرا لدى وزارة الخارجية, وسفيرا لدى كل من اسبانيا وفرنسا, ومندوبا عن المملكة لدى منظمة اليونسكو وبلجيكا, وكذلك لدى السوق الأوروبية المشتركة والمملكة المتحدة. كما كان المصري وزير دولة لشؤون الأرض المحتلة, ووزيرا للخارجية لمرتين, ونائبا لرئيس الوزراء ووزير دولة للشؤون الاقتصادية, وكان أيضا رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع,,, هي أشياء اقتضى التنويه عنها, لاقتضاء النظر إلى ما كان ولازال يقوله الرجل جيدا.