ترامب .. إعادة إنتاج المكارثية !
جريس سماوي
28-02-2017 12:23 AM
فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كثيرا من مراكز الأستطلاعات وبعض المراكز الأعلامية العالمية بفوزه في الأنتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في نهاية العام المنصرم وهو الرئيس القادم من خارج المؤسسة السياسية التقليدية الأمريكية. كما فاجأ العالم والأمريكيين أكثر ، وما يزال، بقراراته السريعة التي تمثل حالة إنقلابية على التقاليد السياسية الأمريكية بل وتتناقض في بعض الأحيان مع روح الدستور الأمريكي وبنود المساواة والعدل وتقوم على إشاعة أجواء إتهامية وأفكار نمطية مسبقة تجاه جماعة أو دين أو قومية بعينها، مما يذكرنا بالفترة التي عرفت بالمكارثية ( نسبة الى السناتور الأمريكي جوزيف مكارثي ).
كان عضو الشيوخ الجمهوري جوزيف مكارثي ( 1908 – 1957 ) معاديا للشيوعية، وقد قام باتهام عدد من موظفي الحكومة الأمريكية بأنهم شيوعيون وموالون للأتحاد السوفياتي آنذاك دون أدلة أو براهين وقدم في بداية الأمر قائمة تزيد على مائتي اسم الأمر الذي أدى الى سجن بعضهم وطرد الالاف منهم من وظائفهم.
وقد شهدت بداية الخمسينيات في الولايات المتحدة نوعا من الأرهاب الثقافي الذي تأذى منه طبقة المثقفين والفنانين ورجال الفكر ومن هؤلاء مارتن لوثر كينغ و ألبرت أينشتاين وآرثر ميللر وتشارلي تشابلن وغيرهم. وقد تبين لاحقا زيف الإدعاءات التي ساقها مكارثي الأمر الذي أدى الى قيام مجلس الشيوخ بتوجيه اللوم اليه رسميا وتعنيفه وانهاء حياته السياسية.
لقد عرفت المكارثية بأنها وصمة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية ونضالات الشعب الأمريكي التي قامت على مفاهيم من مثل الحلم الأمريكي، وبلد الفرص والمساواة، وحرية الأعتقاد والرأي، وبأن أمريكا هي الوعاء المصهور الذي تنصهر فيه كل القوميات والثقافات والأديان.
ولعل كثيرا من المراقبين والعارفين بالتاريخ الأمريكي يأخذون على الرئيس الأمريكي الجديد كثيرا من قرارته وأسلوب إدارته للحكم بما يعتقدونه مغايرا لمفاهيم وروح الدستور الأمريكي والحلم الأمريكي الذي أسس فيما يعتقده كثير من الأمريكيين بلدا طوباويا باليوتوبيا التي يستطيع فيه ابن مهاجر افريقي من أصول سوداء أن يصعد ليكون رئيسا لأمريكا كما حدث للرئيس باراك اوباما.
أنقلب ترامب أول ما أنقلب على إنجازات سلفه الرئيس اوباما وتحديدا فيما يتعلق بقانون الرعاية الصحية أو ما أطلق عليه (اوباما كير) الذي يهدف الى تأمين صحي شامل لكل مواطن بكلفة بسيطة كما هو معمول به في بعض الدول الأوروبية كفرنسا والدول الأسكندنافية.
لقد حاول عدة رؤساء أمريكيين قبل أوباما أقرار هذا القانون او ما يشبهه لكنهم فشلوا من تمريره من خلال الكونغرس، ومن هؤلاء الرئيس جون كنيدي وقبله ثيودور روزفلت وفرانكلين روزفلت وهاري ترومان وغيرهم.
ويعد الغاء ترامب لهذا القانون بتاريخ 20 كانون الثاني هذا العام أي بعيد تنصيبه بساعات، نكسة لنضالات الطبقة الوسطى والفقيرة التي تعتبر القانون إنجازا كبيرا.
ولقد أعقب الرئيس ترامب الأجراء السابق بعدة إجراءات استهجنها العالم ووقف الأمريكيون وقفات إحتجاجية إزاءها ومنها الأنقلاب على المصالحة الأمريكية الأيرانية فيما عرف بالأتفاق النووي، وقراره الخطير حظر مواطني سبع دول إسلامية من دخول الأراضي الأمريكية، القرار الذي طال في الأيام الأولى حتى اولئك الذين يحملون البطاقة الخضراء الخاصة بأصحاب حق الإقامة الدائمة والذين يعتبرون مواطنين كاملي المواطنة باستثناء حقهم في الأنتخاب.
وقد أثار هذا القرار كثيرا من الجمعيات والجماعات والأفراد المناهضين للتمييز وتبرع عدد كبير من المحامين والمواطنين لمد يد المساعدة لأولئك الذين تم التحفظ عليهم في المطارات في وقفة عبر فيها الشعب الأمريكي عن تمسكه بقيمه التي آمن بها.
ثمة قرارت ومواقف أخرى كثيرة عبر فيها الرئيس الأمريكي عن مواقفه المحافظة والسلبية تجاه المرأة وتصريحاته ضد نساء صحافيات وسياسيات أدت الى قيام تظاهرات نسوية بعيد فوزه وأخرى في يوم تنصيبه، إضافة الى مواقف مشابهة من الأفارقة والمسلمين والمهاجرين.
لقد عانت امريكا من العنف والتمييز ضد السود حتى الستينيات حيث قاد مارتن لوثر كينغ واخرون معارك مدنية ضارية لتحقيق المساواة. كما عانى الأمريكيون من أصل ياباني من زجهم في معسكرات اعتقال تعسفي اثناء الحرب العالمية الثانية ووضع أكثر من مائة وعشرين الف ياباني في المعسكرات.
وجاءت الحقبة المكارثية التي تم الحديث عنها لتلوث الحلم الأمريكي الذي اجترحه الاباء المؤسسون الذين اتسموا بالحس الثوري ضد الهيمنة الأنجليزية وقادوا الثورة الأمريكية التي استلهمت مفاهيم ومباديء الثورة الفرنسية. وتأتي اجراءات ترامب ومواقفه اليوم لتتمم مسرحية (الفوبيا) المدعاة في كل مرة والخوف المصطنع من تحرر السود ومن اليابانيين واليساريين والفيتناميين والأفارقة والمهاجرين واخيرا المسلمين. فهل يستطيع الأمريكيون ابناء الثورة الأمريكية التي قامت على مباديء العدل والمساواة والحلم الأمريكي من أن يطيحوا بحلم ترامب بإقامة جدران بين مكونات الشعب الأمريكي مثلما يريد أن يقيم جداره مع المكسيك؟
إن المنظومة التي ينطلق منها الرئيس ترامب في إدارة الحكم هي منظومة لا تقف في مواجهة ومعاداة الآخر فحسب، ولكنها تقف أولا وقبل ذلك في مواجهة الحلم الأمريكي والمباديء التأسيسية لهذا الحلم. وهو، أي ترامب، عندما يريد أمريكا اولا، فأية أمريكا تلك التي يريدها اولا ؟ هل هي أمريكا البيضاء الغنية المدللة، أم أمريكا الكاملة المتنوعة الواحدة ذات الألوان والأطياف المتعددة؟
لقد قال الأمريكيون كلمتهم وأعلنوا إنحيازهم لإمريكا ذات التنوع والأختلاف في إطار الوحدة عندما وقفت النسوة والشبان والعجائز ورجال القانون في المطارات وقالوا: كلنا مسلمون، في مواجهة ضد التشريعات الجائرة. فلتكن أذن أمريكا الواحدة ذات الألوان المتنوعة هي أولا.
الرأي