الديماغوجيا وصناعة الطغاة
سمير حجاوي
27-02-2017 02:06 AM
إذا كان السحر يفتن العيون وينقل الإنسان من الحقيقة إلى الخيال ومن الواقع إلى الوهم، فإن سحر الكلمات لا يقل خطورة عن سحر العيون، لأن الكلمات تسحر الآذان والأسماع وتغزو العقول بجحافل المصطلحات والمفردات التي يمكن استنباتها على شكل أفكار ومفاهيم ومعتقدات، وتسويقها عن طريق الإغراء والغواية والتضليل والزخرفة الخالية من المضمون.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً»، أي يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية، ويزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً، فالإيحاء هنا يعني إلقاء الكلام المموه والمزين والذي لا يحمل في طياته أي معنى حقيقي ليضل عن سبيل الله، وذهب القرآن الكريم أبعد من ذلك في قوله تعالى عن المنافقين: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»، والمراد بذلك هو امتلاك هؤلاء الخشب المسندة للأجسام والفصاحة، والقدرة على الكلام، ولكنهم بلا روح، ومن هنا جاء وصفهم بالخُشب المتآكلة المسندة إلى حائط، فأجسامهم ضخمة وصورهم حسنة وذوو قدرة على الكلام الخاوي.
استهل بهذا المدخل القرآني لمناقشة مفاهيم الديماغوجيا والشعبوية ولغة الخشب، وهي مفاهيم مرتبطة مع بعضها البعض بشكل وثيق، وتكاد تشكل معا «ثالوثاً» للسيطرة اللغوية على الشعوب في عصر الإعلام والعولمة، وعصر الثورات العربية التي تجتاح أجزاء واسعة من عالمنا العربي، ولا شك أن هذه المفاهيم ارتبطت أساساً بالعمل السياسي والخطابة ومخاطبة الناس سعياً إلى السلطة والحكم بشكل رئيسي، وربما تسويق سياسات اجتماعية وثقافية واقتصادية وحتى قيمية، في عالم عربي تصطرع فيه الفكرة الإسلامية مع العلمانية اللادينية وجهاً لوجه، ويحاول كل طرف كسب الجماهير لصالحه، وأخذت هذه الظاهرة تتسع إعلامياً وسياسياً بسبب الثورة والثورة المضادة، وسعي كل طرف لاستمالة الناس ضد الطرف الآخر، وهذا ما زاد من حدة الاستخدام الديماغوجي في الخطابة لإحداث التأثير المطلوب على الأفراد والمجتمعات.
الحقيقة أنني احترت بإيجاد مقابل لهذا المصطلح اليوناني، المركب من كلمتين هما: «ديموس» وتعني شعب، «غوجيا» وتعني قيادة، وإذا ركبنا الكلمتين باستخدام اللغة العربية تصبح «قيادة الشعب»، لكن هذا التركيب لا يشير إلى المعنى ولا إلى المضمون إطلاقا، فالديماغوجيا عبارة عن كلام، لكنه كلام فارغ لا يقول شيئاً، وبالتالي فإن أفضل تعريف لهذا المصطلح هو «الإيهام بالكلام»، وفي التعريف المفاهيمي يمكن أن نقول إنها: «مجموعة الأساليب والمناورات والحيل السياسية التي يلجأ إليها السياسي لإغراء الشعب والجماهير بوعود كاذبة وخادعة، ظاهرياً من أجل الشعب، وعملياً من أجل الوصول إلى الحكم». أو «استراتيجية سياسية للحصول على السلطة وكسب القوة السياسية من خلال مخاطبة الغرائز والمخاوف الشعبية اعتماداً على التوقعات المسبقة عن طريق الخطابة والدعاية الحماسية، مستخدمين المواضيع القومية والشعبية محاولين استثارة عواطف الجماهير»، باختصار أنها «استراتيجية لإقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة».
وتعتبر الديماغوجيا «الإيهام بالكلام» خبزاً يومياً لكثير من السياسيين في العالم، فهم يلجأون إلى استدرار العواطف واللعب على المخاوف وتقديم الوعود الكاذبة الخادعة المضللة باستخدام تعابير هلامية مطاطة إنشائية يمكن تفسيرها على أكثر من وجه حسب مقتضيات الحال.
تتطلب الديماغوجيا «الإيهام بالكلام» خلق حالة من الشعبوية التي يمكن تعريفها بأنها «نوع من الخطاب السياسي الذي يدغدغ عواطف الجماهير غير المثقفة بالحجاج لكسب تأييدهم لسياساتهم والحفاظ على شعبيتهم لدى الناس»، ويفترض الخطاب الشعبوي التوجه المباشر إلى «الجماهير» وفق لائحة من النوايا والنتائج المرتقبة التي يتم الترويج لها.
تعود أصول الشعبوية إلى اليونان القديمة مع صعود «بياعي الكلام» الديماغوجيين في المجتمع، واستمر ذلك في الإمبراطورية الرومانية التي شهدت صعود أباطرة وضباط شعبويين استخدموا قدراتهم الخطابية لتحريك الجموع عاطفياً للوصول إلى مآربهم في التسلط والاستبداد والحكم.
وفي العالم العربي كان للخطاب الشعبوي الديماغوجي دور كبير في تعزيز سلطة الأنظمة الحاكمة عبر استغلال البُنى التقليدية كالعشيرة والقبيلة أو الطائفة الدينية، والإبقاء على الجهل في صفوف «الشعب»، والحفاظ على مزاجٍ سائدٍ يخضع للعادات والأعراف، لإحكام السيطرة على «العوام». وبالطبع واصل السياسيون والطامحون بالسلطة والسيطرة والحكم اللجوء إلى الشعبوية على مدى القرون وصولاً إلى العصر الحديث في كل أنحاء العالم تقريباً، من أميركا اللاتينية إلى آسيا مروراً بأوروبا وإفريقيا، من فيديل كاسترو في كوبا إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والعقيد الليبي معمر القذافي، والزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وغيرهم من القادة في العالم الذين استخدموا الأدوات الديماغوجية التي تتراوح بين الرومانسية الثورية وبيع الأحلام أو الإقناع بالقوة لتثبيت ادعاء أنهم صوت الجماهير وضميرها، وأنهم الأحق بتمثيل الشعب، دون مراعاة مفاهيم التفويض والتعاقد الاجتماعي، ووصم المعارضين أو الناقدين بأنهم «خونة» أو خارجون على الصف الوطني، والعداء للأمة، وبالتالي تحريض الجماهير على «استئصالهم» بوصفهم خونة ضد الشعب والأمة، وتغييب حقيقة أنهم مدافعون عن الحرية والديموقراطية وتداول السلطة.
الخطاب الشعبوي «مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد أو يختاره صُنّاع الخطاب ليبدو على أنه سائد، من دون أن يفيد، من ناحيةٍ أخرى، في التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية. ويُكْثِرُ الخطاب الشعبوي من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور في شكلٍ مسرحيٍّ كرنفاليٍّ، مع الإحالة إلى التاريخ الذي يتم استحضاره واستخدامه كوسيلةٍ أيديولوجيةٍ ذات عمقٍ انفعالي. وعادة ما يلجأ الديماغوجيون الشعبيون إلى ما يمكن أن يطلق عليه «الحجاج الجماهيري»، وهي عبارة عن سفسطة منطقية، دون أن يبني المخاطب كلامه على مقدمات تقوده إلى نتائج تتناسب مع تلك المقدمات، فكل همه اعتناق الجمهور لفكرته، ودفع الجمهور إلى الاعتقاد اليقيني بصحة ما يقال بدون التفكير في الارتباط النصي والنسقي لما يقال ودون محاكمة للكلام، الأمر الذي يقود إلى حالة من الخلط والمغالطة المقصودة لترويج الأفكار المرغوب بإقناع الناس بها.
هذه الديماغوجية الشعبوية التي تقوم على «بيع الأحلام» تقود إلى مصطلح جديد ألا وهو لغة الخشب «اللغة الخشبية»، وهي لغة يستعملها بعض الأشخاص في طرح أفكارهم وآرائهم لجذب السامع لهم في الوقت الذي يكون كلامهم فارغاً من المدلولات والمحتوى والفائدة للمستمع».
ويرجع بعض الباحثين استخدام هذا المصطلح إلى الفرنسيين الذين أطلقوه على الخطاب السياسي الإعلامي إبان الحقبة البلشفية في الاتحاد السوفياتي السابق للتعبير عن افتقاره للمرونة، ثم عمم استخدامه للدلالة على أي خطاب جامد غير ممتع ولا مقنع فهي «لغة مُتعِبة، مُرهِقة، جافة، تجدها في أوراق مطويّة داخل جيوب بدلات أغلب الساسة والخلاّطين، أو مفروشة على ألسن أغلب المسؤولين المغرمين بالمنابر، يُبدعون في استنساخها وتسديدها نحو أي أذن تدخل نطاق تغطيتهم، وهم يدركون أنها «لغة من خشب» لا تصلح سوى للحرق، ومع ذلك فهي ليست متاحة للجميع، وقد يمنحها الله هبة لبعض عباده دون سواهم».
يدرك المستخدم للغة الخشب ضعف كلامه وحجته، ولذلك يحاول أن يداري ضعفه في محتوى كلامه بالتورية وراء العموميات والتاريخ والماضي والمستقبل، واستبعاد الحديث عن الحاضر والواقع المعاش، وهي لغة تغلب على النقاشات البرلمانية في الدول الشمولية التي تكون فيها المجالس مجرد «ديكور»، وبذلك تتحول هذه البرلمانات إلى «بيوت من خشب» لا يستخدم داخلها إلا «لغة الخشب»، وهي نوع من الخطاب التمويهي الذي لا يكترث بمصلحة الشعب إلا «لفظياً»، فالمصلحة هي للحاكم والدكتاتور والأتباع وذوي القربى، ولا تعبأ بالشعب ومصالحه، وهي لغة غير محددة الدلالة، تهدف إلى فرض الرأي بقوة التأثير في السامع، وعدم إتاحة الفرصة لأي نقاش منطقي سليم، وهي لغة عقيمة لا تنتج أي إبداع، بل تؤسس للفساد القيمي والنفاق في المجتمع، ولذلك فإن الأشخاص الذين يستخدمون هذه اللغة هم، كالخشب، الذين يملكون إجابة واحدة لكل الأسئلة التي تطرحها المجتمعات وتمر بها الدولة في كل العصور والأزمنة، لأنها تتحول إلى «المادة السحرية» التي تأخذ بعقول عامة الناس إلى عالم مزيف، خاصة أن هذه اللغة تحمل وعلى طول الخط نغمة ولحناً يستأنس بهما المستمع، فهي تختزن داخلها التزييف والمجاملة والتلفيق والنفاق والنصب التي تمكن السياسي من «الاحتيال على الناس بطريقة لا جبرية» وسوق الجماهير إلى «مصيدة الرضوخ الطوعي».
ومن هنا يمكن القول إن لغة الخشب، لا تحتوي على أي رصيد واقعي أو قيمة مضافة، فهي تستخدم لتسويق الأخطاء وتبرير الخطايا، وتفتقد إلى الهم الجمعي بعيدة عن نبض المتلقي، فكل شيء على ما يرام، وقد أدت هذه اللغة إلى انتشار النفاق والفساد وتوسع الاستبداد واستشراء البيروقراطية وخنق الديموقراطية وغياب العدل وانتشار الظلم وانعدام الأمن ونهب المال العام جهاراً نهاراً. وتضييق الخناق على الحريات والتلاعب بمصير الأجيال بإصلاحات مزعومة والاستخفاف بالشعب من خلال «ترزية» القوانين وتعديل الدساتير على المقاس، وتحويل الوطنية إلى أهازيج عند السياسيين الديماغوجيين من محترفي لغة الخشب الشعبوية، وتسليمها إلى «سماسرة الوطنية» للتغني بها لتمجيد وطنية زائفة والتفاخر بتاريخ مختلق، ونكران أي مطالب بتداول السلطة والمشاركة الشعبية في الحكم، ونسيان قصة «الحرية والديموقراطية والعدالة»، بمساندة سدنة البلاط من الإعلاميين الذين يديرون إعلاماً شيطانياً والمثقفين المزيفين ورجال الدين «الخشبيين» الذين يحثون الناس على «إطاعة ولاة الأمر وعدم شق عصا الطاعة» بدون طرح أي أسئلة، والانتظار حتى الآخرة لطلب الجزاء أو القصاص من ظلم الحاكم والنظام السياسي، وترك الدنيا وقيادتها لهؤلاء المتكالبين عليها، والذين استحقوا السلطة بقوة السلاح وشرعية الغلبة.