المستوطنات الإسرائيلية فوضى الأولويات والاحتمالات
سامح المحاريق
17-02-2017 04:29 PM
تتخذ مشكلة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية حجماُ مبالغاً فيه، للدرجة التي توحي بأنها تستحوذ على أسبقية وأولوية على أي قضايا أخرى، بينما تؤكد القراءة التاريخية أن الاستيطان لم يكن مشكلة على الإطلاق في تجربة التاريخ الإنساني، والمستوطنات في النهاية تخضع لعمليات الابتلاع والإذابة ضمن الحتمية الديموغرافية، أو تتعرض للتفكيك والنقل، وهو ما حدث كثيراً، فالبناء والهدم أنشطة إنسانية تتساوى في الأهمية والوزن النسبي كضروريات لاستمرار الحياة.
وحتى (اسرائيل) نفسها جربت تفكيك مستوطنات سيناء وغزة سابقاً ودون أي مشكلات جذرية أو وجودية، وفي غزة يبدو أن هذه المستوطنات وكأنها صفحة وطويت، والوقوف أمام الآليات الاسرائيلية من قبل المستوطنين لم يكن أكثر من سلوك اعتيادي يعانيه من يضطرون للرحيل من المنزل بعد سكناه لسنوات عدة.
لا بد من الاعتراف بأن وجود المستوطنات يشكل عائقاً أمام السلام، ولكن ذلك ليس بوصفها حدائق ومتاهات خرسانية، وإنما نتيجة تواجدها بوصفها إحدى المحاولات العديدة من أجل تغيير الواقع الديموغرافي على الأرض، واختلاق أجيال اسرائيلية جديدة تعتنق هذه القلاع المتناثرة لتكون وطناً لا بديل عنه، وواقع الأمر أن السجون المسورة بالخوف والغضب لا يمكن أن تتحول إلى أوطان.
المستوطنات لا تضم عملياً إلا هوامش المجتمع الإسرائيلي، وسبب تزايد الوزن النسبي لسكان المستوطنات في المعادلة الاسرائيلية يعود إلى مجموعة من الأسباب، أهمها التدفق الكبير للمهاجرين القادمين من الجمهوريات السوفييتية السابقة، بما يزيد عن مليون مهاجر خلال ربع قرن، وتواصل تبعات الأزمة المالية العالمية التي لم تستثن أي دولة من متاعبها، فكانت المستوطنات بما تمنحه من حلول اقتصادية لسكانها ملاذاً معقولاً مقارنة بالسكن في المدن، كما أن جمهور المستوطنات أخيراً يشعر بأنه كتلة واحدة من حيث ترابط وتواصل المصالح، ويشكلون جميعاً جمهوراً سياسياً متماسكاً لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
يبقى السؤال حول سبب الدفع بمزيد من المستوطنات، ووضع المستوطنات في مقدمة المشهد السياسي؟
تبقى القضية مرتبطة بالاستراتيجية التفاوضية الاسرائيلية، بحيث يندفع السؤال ويتركز حول الأرض وحدود الدولة وشروط تواصل أراضيها جغرافياً، بينما تتراجع الأمور الأكثر أهمية مثل مقومات الحياة في الدولة ومدى قابليتها للاستمرار، أو قدرتها على التطور، خاصة موضوعي المياه والبنية الاقتصادية، فالمطلوب هو دولة شكلية هشة، يعتبر الوصول لإقرارها على الأرض من حيث المبدأ ذروة الإنجاز، طبعاً مع وجود وعود عربية ودولية باستمرار دعم هذه الدولة، وهو الأمر الذي سيتلاشى خلال فترة تطول أو تقصر، ولكن الأمر الواقع يتطلب أن تقوم الدولة بناء على قدرات ذاتية تتصف بالحد الأدنى من الاستدامة، وفي الحالة الفلسطينية، ودون وجود زخم اقتصادي حقيقي، فإنه لا يمكن الحديث سوى عن دولة هامشية غير قابلة للتطور، ولن تشكل في المدى المنظور أو البعيد أي تهديد للمصالح الاسرائيلية.
الاقتصاد الفلسطيني مرتبط عضوياً بـ(اسرائيل)، ويشتمل حل الدولتين في النسخة التي يمكن لإسرائيل أن تقدمها على إقرار هذه التبعية، دون تحمل أي مسؤوليات، وأن يستمر الوضع القائم حالياً بكل جوانبه، والفرق أن (اسرائيل) في هذه الحالة ستظهر بدور الدولة الإيجابية المتعاونة، وستتخفف من مسؤولياتها بوصفها دولة احتلال، أما حل الدولة الواحدة فهو إعادة إنتاج لمرحلة ما قبل الانتفاضة الأولى، أو تقدم لدولة فصل عنصري تستطيع أن تتجاوز الأخطاء الكلاسيكية التي اقترفتها جنوب افريقيا سابقاً، كما أن (اسرائيل) وبالنظر إلى معامل الأرض المحدودة في فلسطين والاحتكاك المباشر القائم أصلاً، فمن المتوقع أن تخضع المعازل الفلسطينية في هذه الحالة إلى تدخلات لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، بحيث ترعى مجموعة من الفئات المرتبطة بها والمتواصلة بشكل مستمر لتصبح أدوات سيطرتها غير المباشرة على بقية مكونات الشعب الفلسطيني.
إن حالة السلطة الوطنية القائمة، وعلى الرغم من كل شيء، ما زالت حالة غير مناقضة لممكنات واحتمالات الثورة لدى الفلسطينيين، فبوصفها مرحلة انتقالية أو سلطة مرحلية، فإنها لم تكتسب بعد المشروعية الكاملة للدولة، التي تقوض مشروع الثورة، وكانت ارهاصات انتفاضة جديدة طرحت نفسها على الأرض قبل فترة ليست بالبعيدة، وعلى ذلك فإن الانتقال العشوائي لمرحلة الدولة التي لا ترى أبعد من وجودها على الأرض مع حدود شكلية سيسفر عن تناقض بين شرعيتين، الدولة والسلطة من جهة، والثورة والشعب من جهة أخرى.
الفلسطينيون متعبون للغاية، سنوات من الحصار والفوضى تثقل عليهم وتجثم على صدورهم، ولكنهم في النهاية ما زالوا يستطيعون أن يأخذوا المبادرة وللدقة المباغتة، وعلى السلطة الوطنية أن تضع ذلك في حسبانها، وما من ضرورة لأن تقدم لـ(اسرائيل) الهدية الثمينة، بأن تتلقى بدلاً عنها الغضبة الفلسطينية التي سيبقى توقيتها مرتبطاً بارتطام الجسد الفلسطيني بالجدار والقتال من وضع اليأس المطبق.
ما هي مفردات الأمل الفلسطيني؟
من الصعب أن يُطرح سؤال بهذه الفجاجة بالنسبة للفلسطينيين دون أن يواجه استنكاراً، وكأن من يلقي السؤال منفصل عن تاريخية الطموحات في وطن حر على كامل التراب الفلسطيني، ولكن بكثير من الواقعية فإنه يمكن القول بأن الفلسطينيين يمكنهم أن يفهموا جيداً، وأن يتقبلوا على مضض، بأرض توفر لهم متطلبات الحياة الكريمة، بعيداً عن احتمالات الامتهان القائمة بشكل دائم، وخارج حالة عدم الاستقرار والشعور الثقيل الوطأة بأن الفلسطيني لا يمكن أن ينظر للمستقبل باطمئنان ودون ذلك الاحتمال بانهيار كل حياته دفعة واحدة.
الدولة الفلسطينية، وأي دولة ستضم الفلسطينيين عليها أن تعطيهم هذه الحقوق التي أصبحت ثابتة ومستقرة لمعظم شعوب العالم، وعدا ذلك، فالشعب الفلسطيني لا يمثل قطيعاً سائباً ينتظر من يروضه ويكف عن (اسرائيل) خطر غضبه وثورته.
السلطة الوطنية ومؤسساتها مطالبة اليوم بمواجهة جميع محاولات إضعافها من خلال سحبها لمربع الصراعات التنظيمية، فذلك مسعى بدا يظهر ممنهجاً من أجل عزلها ودفعها للقبول بما رفضه الفلسطينيون لمرات سابقاً، كما أن المصالحة الوطنية يجب أن ترتقي لتصبح ضرورة وطنية مهما كانت التضحيات اللازمة، فمشروعات ملتبسة بكثير من الوعود والإغراءات ستجد لها امتدادات في الانقسام وواقعه، وستجعل المقاومة الفلسطينية مشتتة على محاور مختلفة ومتناقضة أحياناً.
المستوطنات لا تشكل أي تحد وجودي للفلسطينيين، فالشعب الفلسطيني بكل ما يمتلكه من حياة لا يمكن أن ترهبه الكتل الأسمنتية المتناثرة، التي ترسم ملامح الخوف الاسرائيلي، بينما لا تشكل بالنسبة لأبناء الشعب الفلسطيني سوى أحد محتويات الحمل الثقيل الذي تلقفه «جمل المحامل» وأثبت المرة بعد الأخرى بأنه يمكن أن يحني ظهره أو يتوقف أو يتعثر أو ينهار لبرهة من الوقت، ولكنه ينهض في كل مرة ولو كان في لمعة عيني الطفل أحمد المناصرة، وهو يخطو مقيداً للمحاكمة واثقاً وزاهداً ومفعماً بالتحدي أمام الجلادين المرتبكين بين تقاليد تاريخهم المزيف ونصوص قوانينهم المستعارة.
القدس العربي.