من خلال الواقع السياسي المرير للدول العربية ودول العالم الثالث التي طال عليها الأمد في بحار التخلف المزري على كل الأصعدة وفي كل المجالات، تولد لدى الشعوب والقوى الحزبية والجماعات السياسية مدارس سياسية مزدهرة لها أجندتها وأدبياتها وخطابها، ولها أتباعها ومؤيدوها وأنصارها :-
المدرسة الأولى يمكن تسميتها بالمدرسة «الكربلائية»، التي تقوم على تقمص دور الضحية، وتمارس الشكوى واللطم، وتتقن فن التذمر والتلذذ بسماع اللحن الحزين، ويستطيع أرباب هذه المدرسة التأثير الوجداني في الأتباع والأنصار بطريقة ناجحة، وتكسب قسطاً وافراً من الرأي العام من خلال خطاب المظلومية، ويجد أتباع هذه المدرسة في هذا الخطاب فرصة مناسبة للتملص من إعداد البرامج، أو إيجاد البدائل المناسبة، والهروب من العمل السياسي البنائي الشاق، لأنهم لا يحتاجون ذلك في ظل توافر المؤيدين خارج إطار البرامجية، وخارج إطار العمل المضني.
المدرسة الأخرى يمكن تسميتها بمدرسة «الهايدبارك» التي تبني خطابها على النقد اللاذع والهجاء المفذع والجلد، والسقوف العالية في مخاطبة المسؤولين، وتجد هذه المدرسة عدداً وافراً من الأتباع والمؤيدين عن طريق هذا النوع من الخطاب، الذي يطرب الشرائح المقهورة والمغلوبين على أمرهم، ويدغدغ عواطف الناقمين والغاضبين، وقد وجدت كثير من الأحزاب العربية المعارضة ضالتها في هذا اللون من العمل السياسي، الذي يعطي وهم البطولة، وتقمص دور المعارضة الثورية، والذي يجلب عبارات المديح والتمجيد، كما أنه يعفي أصحابه من العمل والإنجاز وإيجاد البدائل، لأن المشكلة لديهم محلولة بالإجابات الجاهزة والمعلبة، وتجد هذه المدرسة رواجاً واسعاً في ظل تمدد الديكتاتوريات وأنظمة التسلط، التي تجد بعض الراحة في ظل هذا اللون من العمل السياسي الذي لا يعدو الظاهرة الصوتية التي تسبب الإزعاج ولكنها عديمة الأثر والجدوى، وأخرجت نفسها من دائرة العمل السياسي الحقيقي المؤثر.
المدرسة الثالثة يطلق عليها مدرسة «المسحّجين» التي تمتهن مدح الحكومات في كل أحوالها، وتقوم بتبرير أفعالها على كل الأوجه في كل المناسبات، إذ إن أنصار هذه المدرسة يتبعون منهج ردة الفعل على مدرسة المعارضة الدائمة، وتجد بعض المؤيدين والأنصار الذين يرون عدمية الاتجاه السابق وعدم جدواه، وينشأ عن تعارض هذه المدارس معارك كلاميّة بينية تقوم على المناكفة واتباع منهجية إظهار مساوئ الخصم السياسي، وأصبح اللون السياسي المناكف سمة بارزة للعمل السياسي العربي الشعبي والرسمي، وأصبحت هذه المدارس تشكل واقعاً سياسياً يصعب الخروج عليه أو التمرد على تقاليده وأعرافه، رغم ما ينتج عنه من انقسام واستقطاب مجتمعي حاد.
المدارس السياسية السابقة لا تنتمي إلى عالم السياسة الحقيقي والايجابي المؤثر؛ لأن العمل السياسي ينبغي أن يكون في دائرة البناء والعمل والإنجاز وإيجاد البرامج والقدرة على اجتراح البدائل، ولا يتم ذلك إلّا من خلال الانخراط في أعمال إدارة الدولة، وممارسة التجربة في الواقع الميداني الفعلي، وليس الافتراضي، وهذا كله يمثل الواقع السياسي العربي الفعلي الأعوج، الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الديمقراطية الفعلية التي تقوم على التجربة الحزبية، وتشكيل الحكومات البرلمانية، من خلال ديمقراطية عادلة تمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً يتبلور عبر انتخابات نزيهة، وسوف يبقى الفعل السياسي الشعبي العربي عدمياً وعبثياً لا يخرج عن أُطر المدارس السابقة ما زال الواقع السياسي العربي الرسمي على هذا النمط القائم المخالف للعقل والمنطق.
الدستور