لم يتحرك احد في بلدنا لكي يقول لنا بصراحة : لماذا يقدم هؤلاء المواطنون على الانتحار , هل ضاقت بهم الحياة لكي يذهبوا الى الموت بحثا عن الراحة والخلاص , هل يعانون من امراض نفسية تفقدهم القدرة على معرفة مصلحتهم في البقاء على قيد الحياة ؟ هل فعلوا ذلك حقا بانفسهم ام اننا كمجتمع دفعناهم الى هذاالمصير ؟
لدي اجابة واحدة فقط , وهي ان هؤلاء الضحايا لم يفعلوا ذلك “ترفا” , فخيار الموت اصعب خيار يمكن ان يفكر به الانسان , اما الاجابات الاكثر الدقة وتفضيلا والتي لم تصلنا للاسف فهي من مهمة الحكومة اولا , ومراصدنا الاجتماعية ثانيا , ليس فقط لان لكل حالة انتحار ظروفها واسبابها , وانما لان ظاهرة الانتحار اصبحت اخطر من ان نصمت عليها , كما وان صرخات المنتحرين دقت خزاننا الاجتماعي , وربما السياسي ايضا .
ما يهمني هو التذكير بضرورة الانصات للرسائل الصادمة الي تصلنا من المجتمع , وان كانت صرخة الانتحار هي اقسى هذه الرسائل واخطرها واكثرها ألما ، فان ثمة رسائل اخرى لا تقل عنها اهمية , منها هذه الجرائم التي تتصاعد داخل الاسرة الواحدة حيث يتجرأ الاباء على قتل ابنائهم او الابناء على نحر اخواتهم وامهاتهم , ومنها جرائم المخدرات التي تغلغلت للاسف في اوساط الشباب , خاصة في المدارس والجامعات ’, ومنها ارتداد بعض ابنائنا الى التطرف باشكاله , ووقوعهم في مصائد المتطرفيين تحت اغراءات التدين المغشوش , او الهوى المنفوش .
من المفارقات هنا ان بلدنا في العام الماضي تبوأ المرتبة الاولى عربيا في معدلات “ الطلاق “ كما ان الشباب الذين لم تسعفهم ظروف الحياة في الزواج او “ خوف “ الصبايا اللواتي فاتهن قطار الزواج بعد ان تجازو بهن العمر , مازال غير مسموع, ولو قدر لمؤسساتنا الرسمية والمدنية ان تخصص جزءا من موازنتها “ لتزويج “ الشباب لانتهينا من هذه الظاهرة التي تمس امننا الاجتماعي في صميمة .
قراءة هذه الرسائل او التقاطها مسالة مهمة , لكن الاهم من ذلك هو فك (شيفرتها ) والغازها , بمعنى معرفة الاسباب والدوافع التي تقف وراءها , ورسم خرائطها كجرائم ونوازل مستجدة على مجتمعنا , سواء من حيث هوية “ ضحاياها “ واعمارهم ومستوياتهم التعليمية والاجتماعية والصحية, والاهم من ذلك تفكيك المجالات السياسية والاقتصادية والدينية التي خرجت منها.
هنا يجب ان نتوقف طويلا , فوراء هذه الصرخات , حتى لو كان ضحاياها من البسطاء او من غير المعنيين بالسياسة , مشكلة في حركة السياسة ومشكلة في اوضاع الاقتصاد ومشكلة في حالة التدين .
يحتاج الامر بالطبع الى مزيد من التفصيل , فحين تتعطل عجلة السياسية او تتلوث مناخاتها يشعر الناس بالاختناق ويفقدون الامل وتراودهم الهواجس والمخاوف من القادم , وحين تتراجع الاوضاع الاقتصادية ويمد الفقر المقترن بغياب العدالة رأسه او يخرج لسانه للناس , يبدأ هؤلاء بالتفكير بارتكاب (الخطأ) كرد على رسائل رداءة المعيشة , بعض الردود تتجه للشطارة وما يتبعها من نهب وسرقة وفساد , وبعضها يتجه نحو الانتقام من الذات ومن المجتمع على حد سواء , اما الردود الاخرى فتأخذ اشكالا مختلفة , لكنها تقع جميعها في مربع (الجرائم) التي يمكن للقانون ان يضبط اصحابها متلبسين بها احيانا , او الاخرى التي لا يمكن ان يراها او يحاسب عليها احد .
بقي المجال الديني , هذا الذي تعامل مع جريمة الانتحار من بوابة الحكم على النهايات , ولم يسأل عن الاسباب التي دفعت هؤلاء للانتقام من انفسهم , صحيح ان الانتحار حرام شرعا , لكن من واجب الديني ايضا ان يجيب على الاسئلة الاخرى المتعلقة بما يحدث في المجتمع من زلازل وتحولات , هو بالطبع ليس المسؤول الوحيد عنها , ولكنه جزء من هذه المسؤولية , ويجب ان يتحرك هذا الضمير الديني لكي يوقظ ضمائر السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليقوموا بدورهم المطلوب .
سيظل سؤال : لماذا ينتحر هؤلاء ، معلقا في رقبة الحكومات والمؤسسات والمجتمع , لكن اخشى ما اخشاه ان تتحول هذه الظاهرة المؤلمة الى وجبة يومية , كتلك الوجبات السريعة التي نأكلها في مطاعم الغذاء او مطابخ الاعلام , وان نبقى متفرجين , نبتلع ما يصلنا دون ان يتحرك فينا ساكن .
الدستور