"القضاء الأمريكي في مواجهة ترامب"
د. محمود عبابنة
12-02-2017 04:22 PM
أصدر الرئيس الأمريكي ترامب في 27 من شهر كانون الثاني عام 2017م مرسوماً رئاسياً يمنع دخول رعايا (7) دول ذات غالبية مسلمة إلى الولايات المتحدة ولمدة (90) يوماً كما أوقف دخول اللاجئين السوريين حتى اشعار آخر. وبرّر الرئيس المشؤوم ذلك بمحاربة الإرهاب وحماية الأمن القوميّ للشعب الأمريكيّ.
إلّا أنّ الشعب الأمريكيّ الذي ما زال يعيش هاجس أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم يصفق للقرار، ولم تخرج مسيرات التأييد للقائد أو سيادة الرئيس أو أمير المؤمنين الملهم من السّماء ولم تتحرك عجلة التطبيل والتزمير ولم يتفرغ شعراء موائد السلطان لنظم القصائد، فسرعان ما أشعل قرار الرئيس شرارةٍ الغضب الشعبيّ العارم وخرجت التظاهرات الشعبيّة بعشرات الألوف في المدن وحول المطارات ضد ما اعتبروه تراجعاً عن القيم الأمريكيّة وتجاوزاً لروح الدستور من خلال ما اعتبروه تمييزاً عنصرياً على خلفية دينيّة بالرّغم من اكتوائهم بنار الإرهاب من منظمات تدعي بأنّها تدين بالإسلام وقد دشنت انطلاقتها ومهرت براءة اختراعها بالدّم والديناميت.
الرئيس الأمريكيّ الذي يكاد يصبح رمزاً للتّعصب والغطرسة، والذي أوقف العالم على رؤوس أصابعه غداة فوزه غير المتوقع بالانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة، ويحسب له العرب والأوروبيون ألف حساب، هزمه قاضٍ أمريكيّ شجاع ومستقل في مدينة سياتل يدعى جيمس روبرت، يعرف معنى الإنسانيّة ورمزية تمثال الحرية في بلاده ويجلس في غرفة محدودة المساحة لا تزيد عن مساحة غرفة الاستعلامات في مرآب البيت الأبيض أو مجمع الرئيس التجاريّ الضخم، وهذا القاضي لم يكن وجوده وفعله وليد الصّدفة، فقد سبق وقفه العمل في قرار ترامب قاضيين آخرين في ولايتي كاليفورنيا ونيويورك، إلّا أنّ أهمية قرار قاضي سياتل تكمن في شموله تعليق العمل بمرسوم ترامب على كامل الأراضي الأمريكيّة على أثر الطعن الذي تقدّم به النائب العام لولاية واشنطن -الذي ينوب عن الشعب وليس عن الإدارة- وفحوى طعنه: أنّ خطر الدخول يستهدف المسلمين دون وجه حق. وقبل أيام أضافت محكمة الاستئناف الاتحاديّة صفعةً أخرى للرئيس ترامب برفضها طلب إدارته إعادة العمل فوراً بالأمر التنفيذيّ العنصريّ. إنّ ما نراه من تصدي القضاء الأمريكيّ يؤكد صدقيته واستقلاله في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان غير آبهٍ بالعزل أو النّقل أو حتى بتغريدات الرئيس الاستهزائيّة وادعاءات وزارة عدله ولم يستطيع ترامب أن يغطي على عورته العنصرية بغربال الادعاء والسّعي لحماية البلاد والعباد باللعب على وتر الأمن والإرهاب.
المغزى المستفاد من صراع ترامب مع السّلطة القضائيّة الأمريكيّة الذي بدى مبكراً ومستعراً ومستمراً أنه أظهر العقلية العنصريّة لهذا الرئيس جنباً إلى جنبٍ مع ما ظهر من سخط لدى أغلبية الشعب الأمريكي برفضه للعنصرية والتمييز العرقيّ والدينيّ بمعنى أن هناك وفي كل أصقاع الدنيا مكان للطيبين وأصحاب الضمير وأن تكفيرهم ومعاداتهم تجعلنا لا نختلف عن فكر ترامب العنصريّ المقيت كما أكّد أن القضاء الرزين المستقل أين ما كان هو مخزن الحكمة وصاحب العين الثاقبة المراقبة وليس الزعيم كما هو الحال في بلادنا العربيّة المظفرة، القضاء هو الملجأ الحصين للوقوف بوجه القرارات والمراسيم التنفيذية للإدارة مهما علا شأنها وهو الضمانة الأساسية لترسيخ قيم العدالة واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بغض النظر عن دينه وفكره وعرقه وجنسه ولونه ومركزه الماليّ وطبقته الاجتماعيّة وأصله وفصله بالمجمل.
ختاماً فإن الرئيس ترامب ربما يكسب صراعاته العسكريّة المقبلة في ميادين القتال، إلّا أنّه ربما سيخسر مستقبله السياسيّ في أروقة المحاكم التي يتسيدها القضاء المستقل والذي يعمل كحواجز صد سهام العنصرية والتفرقة والقرارات الحاقدة والمعيبة التي تنطوي على تجاوزات صريحة وضمنية بمبادئ حقوق الإنسان الطبيعيّة والأصيلة.