أمضيت الأسبوعين الماضيين في الولايات المتحدة، لإطلاق تقرير "كارنيغي" الأخير، باللغة الإنجليزية، حول حالة العالم العربي، والذي أعدته مجموعة من الخبراء والمحللين، جلهم من المنطقة. ولم أشهد في حياتي كمتابع للمشهد الأميركي مثل هذه الحالة من الانغلاق والتعصب من قبل الإدارة، أو حالة الاستقطاب التي يشهدها المجتمع الأميركي اليوم.
إجراءات الإدارة الأميركية الأخيرة لمنع دخول مواطني سبع دول غالبية سكانها من المسلمين إلى الولايات المتحدة (ما يعادل أكثر من مئة وثلاثين مليون شخص)، تخطت حدودا أكثر من تلك التي وصلت إليها إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن. ففي خضم حرب الرئيس بوش على تنظيم "القاعدة"، بقيت الإدارة الأميركية تصر على أن حربها ليست ضد الإسلام، كما حرص بوش على زيارة المسجد الإسلامي في واشنطن وعدم إظهار أي موقف معاد للدين الإسلامي أو للمسلمين.
بالطبع، لا ينكر أحد سياسة بوش الكارثية بالنسبة للمنطقة حتى من دون أخذه موقفا معاديا للإسلام، لكن الوضع أكثر خطورة اليوم؛ إذ ينبئ بحرب ليس ضد بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولكن ضد الإسلام. وكان عمدة نيويورك السابق رودي جولياني، المقرب من الرئيس دونالد ترامب، قد صرح قبل أيام أن الرئيس الأميركي طلب منه المساعدة في إصدار قرار يتضمن "حظرا للمسلمين" (Muslim ban)، ولكن بطريقة قانونية.
هذه المرة، ليس هناك تغليف على شاكلة القضاء على أسلحة الدمار الشامل أو إقامة الديمقراطية في المنطقة. نحن اليوم بصدد قرارات عنصرية تخالف روح ونص الدستور الأميركي الذي يحظر التمييز بناء على المعتقد الديني، ما يفسر الهجمة المضادة ضد القرار ليس فقط من داخل الإدارة الأميركية، ولكن من بعض أعضاء الحزب الجمهوري نفسه.
لقد رحب العديد من القادة العرب بقدوم الرئيس ترامب، لأنهم وجدوا فيه حليفا قويا ضد إيران وتنظيم "داعش"، كما أبدوا ارتياحا لعدم اهتمامه بقضايا الحوكمة وحقوق الإنسان في المنطقة. لكن هؤلاء القادة سيجدون صعوبة متزايدة في التوفيق بين ارتياحهم هذا وبين موقف ترامب من الإسلام والعالم الإسلامي. وإذا ما أضفنا إلى ذلك موقفه الجدي من نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس، فإننا نستطيع تخيل صعوبة العلاقة مع هذه الإدارة، والتي قد تجعل العلاقة مع إدارة الرئيس بوش تبدو كنزهة بين الورود.
لكن مهما كان موقفنا من سياسة الولايات المتحدة الخارجية، والتي لا شك أنها جلبت ويلات عديدة للمنطقة، فإنه لا بد من احترام نظام الفصل والتوازن داخلها، ووقوف العديد من الأشخاص والهيئات الأميركيين موقفا أخلاقيا ضد هذه القرارات التعسفية، من مثل القائمة بأعمال وزير العدل التي رفضت تنفيذ قرار "حظر المسلمين" ودفعت وظيفتها ثمنا لذلك؛ وأيضاً مجموعة من العاملين في وزارة الخارجية الذين أصدروا بيانا يشجب هذه الإجراءات؛ كما المحكمة التي رفضت الاستئناف الذي قدمته الإدارة لعكس قرار قاض بتعليق هذه الإجراءات. وكلها تظهر كيف يعمل نظام الفصل والتوازن؛ إذ تتدخل سلطة لضمان عدم تغول سلطة أخرى على عملية صنع القرار.
لكن أكثر ما استوقفني كان موقف بعض أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس، مثل السيناتور جون ماكين والسيناتور ليندساي غراهام اللذين اتخذا موقفا علنيا وحازما ضد هذه الإجراءات. ولم تمنعهما عضويتهما في الحزب من ذلك، ولم يختارا أن يكونا " yes men"؛ يبصمان بالعشرة من دون إسداء النصيحة الصادقة. والأهم من هذا وذاك أن أحدا داخل الإدارة لم يتهمهما بالخيانة، أو استكثر عليهما معارضة قرار بالرغم من كونهما "من عظام رقبة" النظام الأميركي، أو كال لهما تهمة تفكيك مؤسسات الوطن، على العكس؛ كان لموقفهما صدى إيجابي واسع لدى قطاعات واسعة من المجتمع، رأت أن الواجب يقتضي عدم الصمت عندما يتعلق الموضوع بمخالفة روح الدستور أو الأسس التي بني عليها المجتمع الأميركي.
والباقي عندكم.
الغد