إنه مرض المرحلة العربية الحالية، التهم اللحم ونخر العظم ..الفساد . يقيم فينا من اقصى مدينة على الأطلسي الى اصغر قرية على الخليج العربي. ابتعد عشرة كيلومترات عن وسط اي عاصمة تجد فرقا يزيد عن عشرين سنة وربما اكثر . هنا في العواصم، مولات ومطاعم فاست فود وشوارع مسفلته وسيارات فخمة وناس يرتدون الماركات، ومن لا يستطيع فالبركة بمحلات التصفية والبضائع الصينية التي تصلح للبسة واحدة فقط.
هناك ..الفلافل المقلي بزيت منتهي الصلاحية، بدل المولات..بالات على بسطات سرقت الارصفة، شبه شوارع باكية، منازل مهترئة، وبدل الهامبرغر والتوست المحمص والزبدة الدنمركية قطعة خبز تٌغط في كاسة الشاي فطور الكثيرين و..أسرع قبل ان يرن جرس المدرسة !
الخلل ليس في الشتاء ولا في البرد بل في من فقدوا الاحساس .اختفت الطبقة الوسطى تدريجياً .منهم من اعتلى صهوة فقره بكده وعرقه و..مدرسته. وانضم الى أعلى، ومنهم من ركب الموج في بحر الفساد وبقدرة فاسد اكبر انضم الى طبقة المليونيرات. الخلل في ان الكذب أصبح موهبة والفهلوة شطارة والنفاق يفتح الأبواب .
يخيل اليك ان المدينة وهم و ما تراه سراب . المدن الحقيقية صدى للقرى والأرياف .الطريق بينها، منها وإليها، كان يجب ان يظل سالكاً بانتظام بالاتجاهين .وأن تتوزع الثروات على الإنسان أينما كان . الأوطان ليست العاصمة فقط والمواطن أغلى ما نملك .
اتذكر الشتاء زمان، كان ثمة برد ومطر لكن ايضا كان هناك دفء بين الانسان ونفسه وبين الاخ واخيه والجار وجاره.كانت أمهاتنا يبدأن رحلة الشتاء، بغسيل لعدة أيام بالطشت والصابون قبل ان ينسحق الى «تايد». ماء يغلي على بابور يجلس بكبرياء قرب الطشت، والكل يجلس في مطبخ الدار أو في الحوش المبلط، بالاسمنت فقط. من دون نقوش او رتوش. يومان او ثلاثة، بيدين اثنتين أو أربع أو ست، حسب عدد الاناث في البيت، وتكون ملابس الشتاء النائمة في صرة أو زاوية من الزوايا أو ما يشبه الخزانة، لكن بالتأكيد ليست خزانة، قد استعادت صلاحيتها لشتاء آخر يبرد مبكراً في تشرين الاول.
وفي كوانين، الاول والثاني، تكون الأرض ارتوت والمزروعات انتعشت والخضراوات نضجت والناس شبعت ملفوفا وزهرة وخسا وسبانخ وعدسا، صافية من الكيماويات ومن جشع التجار. عبقة برائحتها التي تظل طازجة و... بالخير للجميع.
حالة الطقس اصبحت الآن شغلنا ومدار أحاديثنا. نتأفف، نشكو، نمعن في الحديث عن المزروعات القتيلة والمية القتيلة. تصبح البندورة سيدة الموقف بعد الخيار ثم تأتي البطاطا. نلعن شح المياه فيما مياه الامطار تجري في السهول والجبال والشوارع، لكأن أرضنا أصبحت عاقراً وهي كانت مخزن حبوب العالم جرة الزيت وأرض شجرة الزيتون المباركة. لكأننا ترفعنا عن زراعتها فرفعت عنا خيرها فرفع علينا تجار البشر أسعارها ومذاقها الذي هو مذاقنا. أما القمح فإن انتظار سنابله الذهبية سيطول. وربما لا تكون ذهبية!
من ذاك الزمان ومن المكان نفسه نتساءل :كيف وصلت من ذاك البيت العتيق والبلد الفقير الى قصور لندن الانجلوساكسونية ووقفت حيث كان يقف شكسبير ينجب روميو وجولييت وهاملت و..شايلوك الذي احتل احفاده ارضك وبحرك و..أقصاك ؟ اي طريق سلكت من ذاك الطريق الموحل الى بلد جان جاك روسو وموليير وديغول ؟ واي قطار اقلًك الى ضفاف السين وزرقة الراين، وغيرك من اترابك الى ضفاف الفولغا وبلد دوستويفسكي وحمزاتوف وحديد البلاشفة وارستقراطية القياصرة؟
يااااه كم كانت كبيرة بصغرها القرية والمخيم والمدينة التي تعاني صقيع الفساد!
الدستور