عصر التقليد وعصر التقنية .. حكايات وحكايات
د. ايهاب عمرو
28-01-2017 02:21 AM
مع بداية ظهور التطورات التكنولوجية بعد بزوغ ظاهرة العولمة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، مع ما صاحب ذلك من ظهور التقنيات الحديثة وأجهزة الكمبيوتر وشيوع إستخدام الإنترنت، كنت طالباً على مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية حينما طلب مني أستاذ اللغة العربية كتابة موضوع "إنشاء" حول التقليد والتقنية، بكلمات أخرى حول الطرق التقليدية والتقنيات الحديثة. وقد أفادني أنه يحب اللغة التي أعبر من خلالها، وأنه كذلك معجب بالخط الذي أكتب به. وقمت فعلاً بكتابة موضوع أعجب به أستاذ اللغة العربية أيما إعجاب وحصلت من خلاله على علامة مرتفعة جداً.
ولعله من المفيد هنا إستذكار ذات الموضوع وإجراء المقارنات، خصوصاً أنني عايشت كلتا المرحلتين وتفاعلت معهما بشكل كبير.
بادئ ذي بدء، أود القول أن والدتي وضعتني في المنزل على يد القابلة ولم تضعني في مستشفى. ولا زلت أذكر، من جملة ما أتذكر، أن تلك القابلة رحمها الله "أم الأمين" والتي كانت تنحدر من مدينة يافا، كانت تقول لي دائماُ عندما تراني "عم تكبر يا إبني يا إيهاب". إن تلك الولادة البيتية وتلك العاطفة النبيلة جعلتني أنتمي إلى مرحلة أسميها مرحلة "التقاليد" بشكل كبير. ولم أسمع في حياتي عن خطأ إرتكبته قابلة أدى إلى وفاة الأم أو الجنين، لكني سمعت كثيراً عن أخطاء طبية حدثت في العصر الحالي "عصر التقنية" رغم التطور
التقني التكنولوجي في المستشفيات وأدت إلى وفاة الأم أو الجنين أو كليهما معاً.
كذلك، فإن التواصل الإجتماعي الذي كان سائداً آنذاك إعتمد بشكل كامل على الزيارات بسبب عدم توفر أجهزة الإتصالات أو الإنترنت وهو ما ساهم في تعزيز منظومة العلاقات الإجتماعية بين الأقارب من جهة، وبين الجيران من جهة أخرى. ولا زلت أذكر كيف كانت علاقاتنا مع جيراننا وأننا كنا نشعر أن الرابطة التي تربطنا من حيث دفء المشاعر وصدق المعاملة ونقاء السريرة أقرب ما تكون إلى صلة القرابة منها إلى علاقات الجوار، وما يدلل على ذلك إحتفاظنا بتلك العلاقات حتى بعد مرورو عقود طويلة، وكذلك تطور بعض تلك العلاقات إلى علاقات مصاهرة. في حين أن التواصل في عصرنا الحالي يعتمد بشكل كبير على الأجهزة الخليوية وشبكات التواصل الإجتماعي ووسائل الإتصال المرئي مع ما لذلك من تأثير سلبي على منظومة العلاقات الإجتماعية. ومع أهمية التكنولوجيا في تسهيل التواصل وتقريب المسافات إلا أن المبالغة في إستخدامها كان له أثر سلبي على المجتمعات، خصوصاً الشرقية منها، بحيث أدى ذلك إلى إنفصام عرى تلك الروابط بشكل كبير بسبب سوء إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، خصوصاً من قبل الجيل الشاب، بسبب عدم معرفة المتحدثين لبعضهم البعض في كثير من الحالات، عكس ما كان في عصر التقاليد حيث كان الجميع يعرف بعضه البعض بشكل علني ما أدى إلى الحفاظ على النسيج الإجتماعي.
أيضاً، كان يعتمد الإنسان في مرحلة التقاليد على الطبيعة بشكل كبير، إذ لم يكن للتقنيات الحديثة دور يذكر، حيث كان يأكل مما تنتجه الطبيعة، ويشرب مما تفرزه الطبيعة، ويلبس كذلك مما تجود الطبيعة، وينام في حالات كثيرة بين أحضان الطبيعة. في حين أن العصر الذي نعيش فيه حالياً يعتمد على التقنيات والصناعة بشكل كبير، إذ أن معظم الأطعمة والمشروبات أصبحت مصنعة كيميائياً لا تخلو من المواد الكيميائية الحافظة على إختلاف أنواعها، إضافة إلى أن الإعتماد في صنع الملابس أصبح بشكل كبير على الآلة بفعل التطور التكنولوجي مع تهميش دور الأيدي العاملة حتى في حالات صناعة الغزل والنسيج.
إضافة إلى ما سبق، فإن الحياة كانت أكثر بساطة وأقل توتراً مما نحن عليه الآن. وأفادت دراسة إحصائية حديثة العهد أن إثنين من بين كل أربعة أشخاص في العالم يعانون من التوتر بسبب طبيعة العصر الذي نعيش فيه. حتى أن الإنسان عندما يقوم بعمل ما للترويح عن نفسه كحضور عرض موسيقي أو مسرحي فإنه يكون في كثير من الأحيان متوتراً ويفكر في أمور ذات علاقة بعمله أو مصدر دخله أو شئون حياته الخاصة. وقد يكون ذلك عائداً إلى زيادة الإلتزامات وأعباء الحياة وكلفتها المرتفعة على عموم الناس نظراً لتغير طبيعة العصر وتغير طبيعة الحاجات الأساسية والثانوية. ولعل أهم ما ميز مرحلة التقاليد أن الحاجات الثانوية لم يكن لها أي إعتبار وأن التركيز إنصب على الحاجات الأساسية فقط، في حين أن التركيز في العصر الحالي أصبح على الحاجات الثانوية غير الضرورية وعلى المظاهر التي تؤدي إلى زيادة الإعباء على غالبية أفراد المجتمع، مع إغفال حقيقة أن القناعة تشكل علاجاً لتلك الأمراض الإجتماعية.
خلاصة القول: إن العصر الذي نعيش فيه يشهد تطورات تكنولوجية متسارعة شملت كافة مناحي الحياة، منها وسائل التواصل الإجتماعي والنزعة نحو إستخدام الأشياء إعتماداً على التكنولوجيا، ما يشمل إستخدام الشبكة العنكبوتية "الإنترنت"، وهو ما يعرف . ‘Internet of Things’
ومع أهمية التطور التقني التكنولوجي في شتى المجالات والحقول في العصر الحالي وفي تسهيل حياة الناس إلا أنه لا بد من الإشارة هنا إلى ضرورة ترشيد إستخدام تلك التقنية لما لذلك من آثار سلبية على المستخدمين ما يشمل مخاطر صحية، بيئية، إجتماعية، إقتصادية، قانونية، وكذلك نفسية. إن الحل يكمن، من بين أشياء أخرى، في الموازنة بين الطرق التقليدية والطرق التكنولوجية ما يساهم في الحفاظ على الموروث التاريخي والفكري والحضاري الإنساني من جهة، ويساهم كذلك في تطور المجتمع إعتمادا ًعلى التكنولوجيا والعقل الإنساني والرابط الإجتماعي والإبداع الثقافي من جهة أخرى، خصوصاً أن التقنية التي يعرفها البعض أنها السعي وراء الحياة بطريقة مغايرة للحياة، يتعين من أجل الإستفادة منها مراعاة إستخدامها بشكل علمي وصحي سليم.