المؤتمر المنعقد في الأستانة الذي يجمع الأطراف السورية المتنازعة برعاية «روسية – تركية - إيرانية» يمثل بوابة الدخول نحو مستقبل سورية، حيث أن الهدف المعلن للمؤتمر يتمثل بإنجاح وقف إطلاق النار، امتثالاُ لقرار مجلس الأمن الذي تم اتخاذه بهذا الشأن، وأعتقد أن نجاح رعاة المؤتمر بجمع الأطراف المتنازعة يمثل نجاحاً واضحاً في هذا الاتجاه، لأن مجرد الجلوس معاً على طاولة واحدة يعد الخطوة الأولى التي لا مفر منها للسير على طريق تهدئة الأوضاع داخل الأراضي السورية تمهيداً للتسوية «السورية – السورية».
يبدو أن هناك إصراراً روسيا على إنجاح المؤتمر، والنجاح في فرض وقف إطلاق النار، ويظهر ذلك بوضوح من خلال الضغط الروسي على النظام وعلى المليشيات الإيرانية التي حاولت اختراق وقف إطلاق النار في معركة بردى، ويبدو أنه لا مجال أمام الأطراف جميعها إلّا الانصياع للقرارت الدولية، بما في ذلك المسلحين والمنظمات التي تمتهن التطرف.
ما يحدث في الأستانة يؤشر على خارطة العلاقات الدولية القادمة على المستوى الإقليمي والدولي، وسوف تكون صورة الوضع السياسي السوري تبعاً لهذه التوافقات، حيث أن الولايات المتحدة تريد تخفيف حضورها في الشرق الأوسط مقابل زيادة الحضور الروسي وبعض الأطراف الإقليمية الأخرى.
التصريحات الصادرة عن الرئيس الأمريكي الجديد تشير بوضوح إلى فشل المشروع الأمريكي السابق الذي قاده المحافظون الجدد الذين حاولوا فرض نظام دولي أحادي القطب، حيث أرادوا فرض الولايات المتحدة قائدة متفردة على العالم من خلال حرب أفغانستان وحرب العراق، التي استهلكت ما يزيد عن (2) ترليون من الدولارات، ولكن النتيجة لم تزد من نفوذ الولايات المتحدة ولم تجعلها قائدة متفردة، بل يتضح زيادة النفوذ الروسي السياسي والعسكري، وزيادة النفوذ الصيني الاقتصادي الذي يكاد يشكل عملاقاً مرعباً لمستقبل الوضع الاقتصادي لأمريكا والغرب، وها هو (ترامب) يبشر بعودة أمريكا عن سياسة السوق، والتجارة الحرة، والانفتاح الاقتصادي، ويريد العودة بالعالم إلى الحماية والإغلاق وفرض القيود من أجل حماية الاقتصاد الأمريكي.
المرحلة القادمة سوف تشهد تنسيقاً عالي المستوى بين أمريكا وروسيا، حيث أعلنت روسيا عن ضرورة وجود الدور الأمريكي في الأستانة الذي تم تحديد موعده بعد استلام ترامب لولايته الدستورية الفعلية، وسوف تحاول أمريكا ترميم وضعها الداخلي أولاً قبل ترميم أوضاع حلفائها، مما يؤشر بوضوح على تشكل مرحلة انتقالية قادمة تنبىء بتغيرات مرتقبة على صعيد الدول والأنظمة والقوى السياسية في المنطقة العربية؛ التي تشهد تراجعاً وانحطاطاً سياسياً مريعاً، يتمثل بالغياب العربي التام عن مجمل اللقاءات والمؤتمرات التي تبحث مصير المنطقة برمتها.
العرب بحاجة إلى قراءة المشهد الحاضر بدقة وجدية، وامتلاك الرؤية الواضحة لمجريات الأحداث، من أجل إعادة رسم مساراتها السياسية وتحديد رؤيتها الجماعية الموّحدة والعمل على رسم دور عربي واضح في تقرير مصير العرب على خريطة التفاهمات الدولية الجديدة، من أجل عدم الاستمرار في الغياب الواسع عما يخصهم ويخص شعوبهم ومستقبل الأجيال القادمة.
الدستور