يقول السفير الأردني في الصين: إن ما أنجزه جلالة الملك عبدالله الثاني، خلال يومين، أمضاهما في زيارته الأخيرة لبكين، على صعيد العلاقات الأردنيّة- الصينيّة، يحتاج أربعة سفراء مع كافة طواقمهم لإنجازه، بأكثر من عشر سنوات، متتالية.. وهو توصيف دقيق، يلخص حقيقة الإنجاز الملكي، وإصرار جلالته على تذليل الروتين في خدمة علاقات ومصالح الأردن الاستراتيجيّة. وهذا التوصيف من سفيرنا في بكين، يصلح، كذلك، للقياس على سفاراتنا في سائر الدول التي تشملها جولات جلالة الملك، ولقاءاته؛ إذ تشكل الجهود الملكيّة، بالإضافة إلى بُعدها الاستراتيجي، دعما استثنائيا كبيرا لعمل طواقم الدبلوماسيّة الأردنيّة، وبما يكفل إزالة العوائق وتخطي العقبات المعتادة، واستثمار عنصر الوقت، على أحسن وجه.
وعلى صعيد آخر، يتبدّى لمن تتاح له زيارة الصين، والاطلاع على ملامح نهضتها؛ حجمُ المنجز الضخم، في بلد تعامل مع التحدّيات بحكمة وصبر، ونجح في تحويل ما كان يُنظر إليه بوصفه نقاط ضعف مرهقة إلى عوامل قوّة وتميّز، تسهم في تحقيق الأهداف الكبرى. وبغض النظر عن الجدل الدائر، في أوساط المتابعين والمختصّين الغربيين تحديدا؛ فيما إذا كانت الصين قد أصبحت بالفعل قوّة عظمى على الساحة الدوليّة، أم أن الوقت أمامها ما زال طويلا؛ فإن ما حققه الصينيّون حتى الآن يبعث على الدهشة، ويحفز للاهتمام أكثر فأكثر، بما يشهده هذا البلد من تقدّم وتحوّلات ملفتة.. والأهم؛ فإن التجربة الصينيّة، في مجالات عديدة، تستحق الدراسة وأخذ العبر والدروس، وبشكل خاص للدول النامية.
الاستراتيجيّة الصينيّة في التعامل مع القوى العظمى، دوليّا، بحدّ ذاتها، هي درس من الدروس المهمّة؛ فالدولة التي تبدو لكثيرين، اليوم، كقوّة عالميّة، ما زالت، كما وصفها أحد المحللين: تتحرك في عباءة دولة نامية، في تواضع حضاري وثقة هائلة بالنفس وبقدرتها الكبيرة على صياغة مستقبلها الاقتصادي، وحجز مكان لها بين القوى العظمى تحت شمس النظام الاقتصادي العالمي الجديد.
أما الدرس الثاني، والذي لا يقلّ أهميّة، فيمكن ملاحظته من خلال قراءة أسلوب الصين في التعامل مع التعديلات الاقتصاديّة، والتي شكلت متطلبات أساسيّة، لدخول النظام الاقتصادي العالمي، من أوسع أبوابه؛ حيث لم تتخذ بكين أي موقف متشنج تجاهها، وإنما أبدت مرونة ملفتة، وأجرت العديد من التحولات الاقتصادية، ولكن وفق اعتبارات الخصوصيّة الصينية، ومتطلباتها وشروطها؛ فلم تتحوّل إلى الرأسماليّة العالميّة بكافة مواصفاتها ومقاييسها وشراهتها، ولم تتخندق في حدود النظريّة الاشتراكية. وقد أرادت الصين لتجربتها أن تكون تدريجيّة، مع احترام الزمن المطلوب للتكيُّف، ودونما قفز في الهواء.
وعلى سبيل المثال، فقد امتازت التجربة الصينيّة، بإبعاد بعض المجالات عن رأس المال الأجنبي كليّا، وبشكل خاص تلك المجالات التي تتعلق بالغذاء والصحة والتعليم، فحققت بذلك مفهوم الأمن الشامل، وضمنت لثقافتها أن تبقى عصيّة على الأفكار والثقافات الدخيلة، أو الموجهة. وباختصار شديد، فقد أثبتت التجربة الصينيّة أن الانفتاح الاقتصادي والخصخصة والعولمة، وغيرها، ليست قدرا، بالمعنى أو الشكل اللذين يحدّدهما الآخر؛ وإنما هي متطلبات، تنبع من حاجة داخليّة، أساسا، ويمكن التعامل معها، وإجراء التغييرات المطلوبة عليها، بحسب ظروف واعتبارات الخصوصية، وبما يضمن تحقيق المصالح العليا.
على كل حال، فإن الصين اليوم، وعلى أقل تقدير، تبرز بسرعة كإحدى الدول الرئيسية في مجالي العلوم والتكنولوجيا، بحسب خبراء ومتابعين غربيين؛ مستندة إلى تاريخ طويل من الابتكار والقدرة على تحقيق المعجزات العلميّة.. وهو ما يعني أنها بالفعل، غدت قوّة عظمى عالميّة في هذا المجال. وهي اليوم تفرض نفسها على حسابات وتفكير وحتى هواجس الساسة والمحللين والمختصين، في دول المركز.. والتعامل مع الصين بجديّة واهتمام، والاعتراف التام بما حققه الصينيون، واحترام تجربتهم وخصوصيتها، كل هذه لم تعد قضايا قابلة للنقاش، وإنما أصبحت حقائق ماثلة، تؤكد أن الرهان على التنين، لن يخيب، وسيثمر في أكثر من مجال.
abdromman@yahoo.com
عبد الله أبو رمّان