توقع من توقع، وتمنى من تمنى، تكهن الكثير، وخمن أكثر، لكن ها هو الرئيس الأميركي الخامس والأربعون دونالد ترمب يصبح حقيقة، سيد البيت الأبيض لأربع سنوات... على الأقل. العالم في حيرة كيف سيكون عليه النظام العالمي في الحقبة القادمة، ليس لأن الرئيس القادم هو الأفضل أو الأسوأ، وليس لأنه فعل ما لم يفعله مرشح رئاسي أميركي في حملته الانتخابية بتصريحات صادمة أحيانًا ومفاجئة حينًا آخر ومرعبة حينًا ثالثًا، بل لأن الغموض هو العنوان العريض الذي غلف به السيد الرئيس سياساته المقبلة، وكأنه يقول للعالم أجمع: لا تتوقعوا ولا تتنبأوا... فقط ترقبوا وانتظروا.
ضبابية دبلوماسية تلقي بظلالها على المجتمع الدولي وقادته وحكوماته، من الصين إلى أوروبا إلى حلف شمال الأطلسي مرورًا بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الذين وجدوا أنفسهم ذات لحظة في مشهد سيريالي غير منتظر. لا أحد يملك أدنى فكرة حول ما يمكن حدوثه، وحده سيد البيت الأبيض قادر على كشف مكنونات أسراره، يمكن القول ليس العالم وحده من ينتظر كيف ستكون عليه أميركا الترمبية، أيضًا الداخل الأميركي هو الآخر يترقب بحذر كيف سيكون عليه الحال، في بلد 86 في المائة من مواطنيه يرون أنّ بلادهم تشهد انقسامًا أكبر من الماضي، وفقًا لدراسة لمركز بيو للأبحاث ونشرت أمس. المفارقة أن هذه النسبة بلغت 46 في المائة عند تولي أوباما الرئاسة.
حلفاء الولايات المتحدة كما خصومها، يترقبون أي إشارات عن نوايا واشنطن وسياساتها القادمة، كما هي إشارته في خطاب التنصيب أول من أمس بتعزيز التحالفات القديمة وتشكيل تحالفات جديدة «وتوحيد العالم المتحضر ضد الإرهاب
المتطرف»، وإذا كان مقدم برنامج تلفزيون الواقع السابق ومؤلف كتاب «فن إبرام الصفقات»، أعلن مرارًا رغبته بعدم التدخل في شؤون الشرق الأوسط، فإن هذه الرغبة أقرب إلى النظرية من التطبيق، فمنطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط لن يكون من البساطة اتخاذ قرار أقوى دولة في العالم بالتفرج على ما يحدث فيها، كما أن المنطقة لطالما شكلت إحدى أهم المناطق الجوهرية في السياسة الدولية بشكل عام والأميركية بشكل خاص، فالتعهدات والإشارات الإيجابية ستعود في النهاية إلى استقرار الولايات المتحدة وليس لأولئك الحلفاء فحسب، مثلا... هدف مثل مكافحة الإرهاب «الذي سنزيله تمامًا من على وجه الأرض»، كما قال ترمب، لن يكون ممكنًا بدون إشراك السعودية والدول الحليفة بالمنطقة، فالكل يعلم أنه من الاستحالة تجريد آيديولوجية «داعش» من مصداقيته دون حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة.
ثماني سنوات وحلفاء الولايات المتحدة التاريخيون في حالة إحباط من إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. ثماني سنوات عجاف مرت بكوارثها ومآسيها التي ارتبطت بسياسة أميركية خارجية أثبتت عجزها، آن الأوان أن تتنفس المنطقة وتخرج من أزماتها، والذي من الصعب أن يحدث بدون قيام أقوى دولة في العالم بمهامها وواجباتها، فالعالم يحتاج دائمًا أن تكون هناك دولة عظمى تقوده، بالطبع ذلك لن يكون سهلاً أو بالأحرى ليس واضحًا حتى هذه اللحظة.
ترمب أكد في خطاب تنصيبه أنّه ملتزم بوعده أن «يعيد لأميركا عظمتها»، متعهدًا بأن رؤية «وضع أميركا فقط أولاً» ستحكم جميع قرارات الولايات المتحدة من الآن فصاعدًا، منطق سياسي غاية في الروعة، لكن التاريخ علمنا أن الدول
العظمى لا تصبح كذلك إن تخلت عن واجباتها وتركت التزاماتها وانكفأت على نفسها، ها هي حقبة أوباما أكبر شاهد كيف تتراجع الدول العظمى.
الشرق الأوسط