في بلدنا وحده ، ينقسم الناس إلى فريقين ، ولونين ، وينقسمون ما بين الفيصلي والوحدات ، وما بين الشمال والجنوب ، وما بين اليمين واليسار ، وما بين الشماغ الأحمر والأزرق ، لا مجال لآخر يرفع صوته ، ولا مجال للوسط فهو غائب كالطبقة الوسطى ذابت ما بين طبقة المترفين والكادحين للعيش ، حتى القهوة الوسط غابت فإما سادة مُرّة ، وإما حلوة بلا طعم.
في بلدنا لا إحترام للتخصص ، فالكل يبحث عن الترقية ولو كان بمسح جوخ " معاليه " كل صباح ، يتسلّم مسؤول اللوازم إدارة الثقافة ، ويستلم البيطري قسم الموسيقى ، المهم يوجد علاوة ، وسكرتيرة " معاليه " تهتم بعطر المكتب ونوع جواربها أكثر من مواعيد ووجع الناس.
في بلدنا الكذب سياسة ، تكذب الحكومة على الناس وتسدُّ جوع الفقراء بأرقام النمو ، ويكذب النواب على ناخبيهم ، ويكذب الإعلام على المشاهدين والمستمعين ويقنعونهم أننا ما زلنا بخير .. ويكذب المعلم على طلابه أن المستقبل ينتظرهم .. في بلدنا فقط الكذب فعل حياة .
وتجد العلماني الذي لم يسجد لله يوما يحاضرك عن دور الإسلام المعتدل، وتجد المتهم بالفساد يستعرض خبراته في ورشة " المحافظة على المال العام" ، وتخرج عليك مذيعة التلفزيون لتشرح لك أهمية "شوربة الشوفان " للمشاهدين الذين يعانون من فقر الدم .
في بلدنا وحده يجلس الدكتور الذي قضى نصف عمره في الدراسة والتدرّيس في الصف الثاني محترما نفسه وعلمه ، ويتقدم الصفوف موظف بلدية عُيّن زورا ولا يداوم ، ومتقاعد سرق راتب الإعتلال ويطعم أولاده راتب حرام ، وشيخ صنعه "محافظ" وإشترى عباءة رخيصة بعدما باع باقي أراضي شقيقاته.
في بلدنا يحدث أي شيء ، فلا تتعجب أن بمطرك جارك بضرورة صلاة الفجر وهو يسرق كهرباء من وراء الساعة ، ويشكو إليك كثرة الإلتزامات وقلة الراتب والبركة . ويتزاحم الناس على الإشارة الضوئية ، ويمطرونك بالشتائم والزوامير إن تأخرت جزءا من الثانية بالسير ، وهو نفسه تلاقيه على باب العمارة فيحلف طلاقا من إمرأته المسكينة إلا أن تدخل قبله ... وهو الذي يقيم الدنيا على رأسك إن طلبت منه أن يلتزم بالدور أو أن يقدم رجلا مُسنّا ً في المستشفى ، ولكن هو هو ينادي بأغلظ الأيمان ومستعد أن يذبح ولده إكراما لضيفه ....!!
لست محل الله لأحاسب الناس ، ولست قائمقام للحكومة لأنصب محاكم التفتيش ، ولكن هناك غلط يكبر فينا ، ويتدحرج ككرة ثلج ، ويخطفنا ويخطف المجتمع نحو المجهول ، ويكسر منظومة الأخلاق والتربية ، ويعيدنا في ظل هذه الهجمة الإستهلاكية وثقافة " المول" والسمنة والموبايلات إلى كائنات تبحث عن الطعام والتكاثر بلا روح ، وبلا رضا، كائنات لم يعد همها إلا العيش ولكن هي تسير إلى الموت أكثر . متى نصحو وفي الصحيان وجع وندم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه .