كنت قد حذرت في مطلع هذا العام من أن التقارير الدولية المحايدة ستسجل تراجعا لدينا في احترام الحريات الإعلامية والالتزام بها، وها هو تقرير منظمة مراسلين بلا حدود يأتي ليؤكد وضعا كنا نعلمه ونعيشه، بل إن التراجع الذي سجله التقرير هو أقل في الواقع مما حدث بين العامين 2007 و2008.
لقد أظهر التقرير الذي أفرج عنه قبل أيام ويمكن للمهتمين قراءة ملخصه التنفيذي على موقع منظمة مراسلين بلا حدود الالكتروني تراجعنا في الأردن خلال الأعوام الثلاث الماضية بما مقداره ثماني عشرة درجة على مقياس الحريات الإعلامية الذي تضعه المنظمة بالتعاون مع خمس عشرة منظمة أخرى ذات علاقة و130 مراسلا صحفيا حول العالم وعدد من الباحثين والإعلاميين والقانونيين المختصين في 167 دولة هي مجموع الدول التي شملها التقرير.
في العام 2006، أي في السنة الأولى من عهد حكومة الدكتور معروف البخيت كان ترتيبنا 109، ثم تراجعنا في العام 2007 (أي في السنة الثانية من حكومته) إلى المرتبة 122 جراء فضائح الانتخابات الشهيرة وقمع التنظيمات الإسلامية بالأخص حزب جبهة العمل الإسلامي وحركة الإخوان المسلمين وافتعال معارك مع حماس والانحياز إلى صف السلطة الوطنية الفلسطينية ورموز فتح، وما رافق ذلك من تضييق على بعض الإعلاميين ووسائل الإعلام وصل إلى حد منع بعض الصحف الأسبوعية من الطباعة وتهديد بعض الإعلاميين بالعصا الغليظة المعروفة.
وبعد مجيء الحكومة الجديدة التي شكلها المهندس نادر الذهبي في أواخر نوفمبر 2007 كان من المتوقع نظريا حدوث تحسن على وضعنا النسبي تجاه الحريات الإعلامية، خاصة وأن الحكومة السابقة قد حملت وزر كل المآزق السياسية والتقصير الخدماتي، وأن الحكومة الجديدة جاءت "على طبق من ذهب" ومدعومة من قبل مراكز صنع القرار الأخرى وبشكل لم يسبق له نظير، وكان من المتوقع إذن إطلاق باب الحريات من باب أنه ليس لدى الحكومة ما تخشاه بعد أن عبدت أمامها الحكومة السابقة الطريق، فلا أزمات سياسية مقلقة داخليا أو خارجيا ولا انتخابات بلدية أو برلمانية تم ترتيبها، ولا مياه ملوثة ولا شاورما فاسدة ولا إسهالات مواطنية أو هجمات نيابية أو تدخلات من مراكز النفوذ أو مؤامرات سياسية- إعلامية تستهدف التشويه والإطاحة كما حدث مع حكومة الدكتور البخيت.
كل تحديات الحكومة انحصرت عام 2008 في باب الاقتصاد لا السياسة، وبالرغم من هذا الهدوء النسبي الذي حظيت به، إلا أننا تراجعنا على مقياس الحريات الإعلامية إلى المرتبة 128 أي بواقع ست درجات عن عام 2007 الذي بلغ ذروة في الأزمات الداخلية والخارجية، فما الذي حدث، ولماذا؟!
لقد فوجئت الصحافة المستقلة هذا العام بحرب استباقية غريبة غير مألوفة شنت عليها لتحجيمها سلفا ومنع أي كان من فتح فاه تجاه ما يحدث وسيحدث، وبعد الانفراد بتلك الصحف القليلة، صدرت قرارات رئاسية عجيبة تمنع الموظفين الحكوميين وشبه الحكوميين من الادلاء بأي تصريحات لوسائل الإعلام وتسريب أي وثائق مهما كانت معطية إياها صفة الحصانة، وهما ممارستان تتعديان صراحة على قانون حرية الوصول إلى المعلومات وتنتهكان الحريات الإعلامية، كما منعت صحف يومية مستقلة من تغطية الأحداث الرسمية في رئاسة الوزراء ومؤسسات ووزارات الدولة ناهيك عن نشاطات الديوان الملكي، وحجبت الإعلانات الرسمية والاشتراكات لبعض أهم المؤسسات في الدولة وباتت الدعوات لحضور الفعاليات الهامة تختص بأناس دون آخرين، ومنع أصحاب الرأي المستقل من الظهور في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها السلطة التنفيذية بشكل مباشر أو غير مباشر، كما منعت الأخبار والمقالات في بعض الصحف اليومية من الظهور على قنوات الإعلام الرسمية كالتلفزيون الأردني والإذاعة الرسمية، بل إن بعض المعدين والمقدمين تم طرده أو توبيخه لأنه وقع في خطأ الاستشهاد بصحيفة مغضوب عليها أو كاتب غير مرضي عنه، وهو ما لم يحدث حتى في أسوأ عهود القمع السابقة.
بعد تلك الحرب التي كانت الأنباط ضحيتها الأولى في مطلع الشهر الأول من العام 2008، أي بعد أسابيع من تشكيل الحكومة الجديدة، توقعت مزيدا من الضربات للصحافة المستقلة كما تنبأت بانحدار مؤشرات الحريات الإعلامية مقارنة بالعامين المنصرمين، مع أننا في الأنباط تمتعنا بحرية إعلامية غير مسبوقة في عهد حكومة الدكتور البخيت مقارنة بحكومة الدكتور عدنان بدران، ومقارنة بحكومات أخرى عاصرناها مع صحف أخرى غير الانباط رغم قسوتنا في النقد وجرأتنا في الطرح آنذاك، ولكن رئيس الحكومة السابق البخيت كان خبيرا استراتيجيا ورجل سياسة وكان يقدر قيمة الحريات الإعلامية ولم يكن يحقد على من يخالفه الرأي، ويشهد الله أننا لم نسجل عليه أي ضغوط مورست علينا رغم اضطراب المناخ السياسي العام في عهده جراء أزمات متتالية غير مسبوقة داخليا وخارجيا، بل إنه كان حريصا على تأكيد التزامه بحرية الصحافة في كل المرات التي التقيناه فيها صحفيين وإداريين، ولكن تراجع الحريات الإعلامية في عام 2007 كان أمرا يتجاوز رئاسة الحكومة إلى مواقع أخرى في صنع القرار.
ولذلك، ورغم كل صيحات الإصلاح وتغيير وتبديل الحكومات والوزراء وإنشاء وزارة التنمية السياسية الفريدة من نوعها في العالم، ورغم استكانة الأوضاع السياسية الخارجية والداخلية نسبيا فإن مسيرتنا نحو احترام حرية الإعلام تراجعت مرة أخرى في عام 2008، ولو أن الأنباط كمؤسسة إعلامية كانت قد سؤلت حول مناخ الحريات هذا العام لجاءت نتائج تقرير منظمة مراسلين بلا حدود أسوأ من ذلك ، ومن ثم فإننا نعلن أن هذا التراجع لا يشمل ما تعرضنا له في الأنباط لأننا ارتأينا آنذاك ان لا نشتكي لأحد بما في ذلك مؤسساتنا المحلية المعنية بالحريات الإعلامية لأسباب نحتفظ بها.
في تقرير المنظمة الذي قد أعود إليه في مقال آخر لثرائه وردت جملة هامة للغاية تكررت في العنوان والمتن مفادها أن الديموقراطيات الضالعة في نزاعات مسلحة خارج أراضيها تراجعت على مقياس الحريات وأن السلام وحده لا الازدهار الاقتصادي ما يحمي الحريات الإعلامية. وتكرر في التقرير كما في التقارير السابقة عدد من الاستنتاجات المستمدة من البيانات الإحصائية المتاحة والتي تضع شروطا ثلاثة للحريات الإعلامية هي الممارسة الديموقراطية البرلمانية الفاعلة والازدهار الاقتصادي والسلام.
وفقا لما تقدم، فإنني أجدنا في الأردن خارج كل المعادلات والاستنتاجات، فالشروط الثلاث المطلوبة للحريات الإعلامية متوفرة لدينا بدرجات معقولة وأكثر من نظراء لنا في المنطقة والعالم تقدموا علينا في مقياس الحريات الإعلامية كلبنان مثلا الذي يفتقر إلى الأمن الداخلي والسلام الخارجي ويعاني سياسيا من صراعات طائفية مدمرة تصلح كعذر مقنع لقمع الحريات فيه لو شاء ساسته من باب الحرص على تماسك المجتمع وأمن الدولة، ويعاني اقتصاديا معاناة أسوأ من معاناتنا بحجم ما عليه من ديون وما يتوفر لديه من مصادر وما يمارس من فساد، ويئن تحت وطأة عداء مستحكم يهدد استقلاله وسيادته مع إسرائيل ، ولكنه يقع مع ذلك في المرتبة السادسة والستين في حين أننا نقع في المرتبة المئة والثامنة والعشرين!!!
المقارنة ذاتها تتكرر مع دول أخرى خليجية كقطر والإمارات لا تتمتع بممارسات برلمانية "ديموقراطية" على غرارنا ولكنها تنعم بسقف حريات أعلى منا مع ذلك مع أن لدى نظامها مبررات لقمع الإعلام لو شاء في ظل غياب الممارسة البرلمانية التي تشرعن الكثير مما يفقد شرعيته خارج مؤسسة الشعب. الإمارات جاءت في المرتبة 69، وقطر في المرتبة 74، في حين أننا نحن في المرتبة 128 وفيما يسميه التقرير قلب التصنيف اللدن!!
الشيء ذاته يتكرر مع دول لا تحظى باستقرار اقتصادي أو معدلات نمو على شاكلة معدلات نمونا التي تطل علينا بالموجب دوما رغم أن دولا أخرى عملاقة من حولنا أرقامها بالسالب، فناميبيا التي كانت عنصرية في السابق ولا ترقى أرقام نموها الاقتصادي إلى أرقامنا تقع في المرتبة الثالثة والعشرين وتقترب من الدول العشرين الأولى الأكثر تقدما في العالم في ميدان الحريات الإعلامية، وكذلك كالأمر مع كوستاريكا وترينداد وغانا والقرن الأفريقي وجنوب افريقيا والاورغواي وكرواتيا ونيكاراغوا وحتى كينيا ومولدوفيا وغينيا وزامبيا وفيجي، والقائمة تطول.
نحن بحاجة إلى مراجعة حقيقية لأجندة الإصلاح لدينا، وبحاجة إلى وفقة مع الذات يتم فيها تقييم أوضاعنا الداخلية في ضوء بيانات حقيقية تعكس مستويات الرضا الداخلي عن كثير مما يحدث، وبحاجة أكبر إلى تقارير صادقة تطمئن المسؤولين إلى أننا في وضع آمن وليس لدينا ما نخشاه كي نفتح الباب لحرية التعبير ونمتنع عن مضايقة المفكرين المستقلين والإعلاميين والمؤسسات الصحفية.
نحن أحسن حالا من الكثيرين على صعيد الأمن والسلام والاقتصاد والنهضة العلمية والمدنية وصناعة الإنسان، ونحن أفضل حالا من كثيرين في المنطقة في باب الممارسة الديموقراطية عبر بوابة البرلمان رغم كل ما يشوبها من شائبات، ورغم ما نتطلع إليه من تحسينات، فلماذا هذا الخوف ولماذا هذه التسلطية؟! لماذا لا يفتح الباب أمام الإعلام ليرى ويسمع ويسجل دون رعب أو قمع؟
سبق وأن قلت كما قال غيري في أكثر من موقع: الجروح التي تراها الشمس لا تتعفن ولا تستحيل إلى دمامل، فلماذا نصر على أن نغطي جروحنا بطبقات من الخرق البالية السوداء؟!!
الانباط.