إذا كان هناك أزمة حقيقية كبيرة ومتفاقمة كما يقول كبراء القوم وأصحاب المسؤولية ورجالات الدولة والحكومة من المطلعين على دواخل الأمور بعمق ورؤية حقيقية، فهذا يقتضي أولاً وقفة مراجعة شاملة لمجمل السياسات الاقتصادية التي تم اتباعها طوال السنوات السابقة، وضرورة الوقوف بجرأة ولحظة صدق مع النفس، من أجل إعادة الاستدارة إذا تبين عدم قدرتها على تحقيق ما كنا نود الوصول إليه، ولا بأس من الاعتراف بالحقيقة المرة برجولة وصدقية كاملة.
من أهم القضايا التي يجب دراستها ومراجعتها في هذا السياق قضية الهيئات المستقلة والمناطق الخاصة، حيث أنها إحدى التجارب التي تم اعتمادها في السنوات السابقة، والسؤال الكبير المطروح هنا بوضوح: ما هي معايير النجاح لهذه الهيئات؟ وكم عدد السنوات التي تم تحديدها بالضبط للحكم عليها بالنجاح أو الفشل؟ وهل ترفد هذه الهيئات والمناطق خزينة الدولة العامة فعلاً؟ وما مقدار المبالغ التي تم توريدها لخزينة الدولة من هذه الهيئات والمناطق؟ وما مقدار النفقات التي تم استهلاكها في مقابل ذلك عبر هذه الهيئات والمناطق الخاصة؟ لقد آن الآوان لكشف الأرقام منذ لحظة التأسيس وحتى هذه اللحظة وإعطاء المواطنين الحقائق المجردة.
القضية الثانية قضية المناطق التنموية، هل حققت النجاح المطلوب؟ وهل حققت أهدافها؟ والرد ينبغي أن يكون بوصف المشاريع المنجزة وتكاليفها، وماذا حققت من أرباح؟ وكم استطاعت أن تشغل من الأيدي العاملة؟ وكم استطاعت أن تقيم مشاريع انتاجية ناجحة؟ وفي مقابل ذلك يجب الاطلاع على الرواتب والنفقات منذ لحظة إنشائها وحتى هذه اللحظة، حتى لا ينطبق علينا المثل البلدي القائل: (مثل حراث الجمال).
القضية الثالثة تتعلق بجعل موازنة الدولة موازنة واحدة موّحدة، بمنهجيتها وإعدادها ومراقبتها، وإمكانية الاطلاع عليها وفرض المحاسبة، بحيث ينبغي أن تكون كل الأموال العامة منظورة في بنودها وقيودها ودفاترها، مثل كل الدول المتحضرة، التي يمارس مجلس النواب فيها مسؤوليته الدستورية الكاملة، وهذا يقتضي إعادة صياغة كل مؤسسات الدولة الدستورية وفقاً لهذا المسلك المنطقي ووفقاً لهذه المنهجية المحاسبية الصحيحة.
أما القضية الرابعة تتعلق بآليات إعداد الموازنة العامة وكيفية عرضها، حيث ينبغي اشراك مجلس النواب عن طريق لجنته المالية بإعدادها والاطلاع عليها منذ فترة طويلة، لأن المجلس لا يستطيع أن يقوم بمهمته الدستورية بالمراقبة من خلال مناقشة الموازنة خلال يومين أو ثلاثة لثمانية مجلدات ضخمة مليئة بالأرقام والتفصيلات، فضلاً عن القدرات المتخصصة للأعضاء وامكاناتهم الفنية في فهم بنودها على نحو تفصيلي دقيق، ما يجعلنا أمام مسألة إعادة النظر في منهجية الاطلاع والمناقشة والإقرار من قبل المجلس.
القضية الخامسة تتعلق بضرورة فرض هيمنة ديوان المحاسبة على كل أموال الدولة العامة، وعلى كل الشركات الحكومية وما تساهم به الحكومة بأي نسبة، بالإضافة إلى الهيئات المستقلة والمناطق الخاصة بلا استثناء، ولا يجوز إبعاد الديوان عن الاطلاع والمراقبة على كل قرش حكومي، وعلى كل ما يتعلق بخزينة الدولة، بل لا بد من توسيع نطاق مراقبة ديوان المحاسبة لكل الأموال العامة، وما المانع من ذلك؟
القضية السادسة تتعلق بمصير نتائج التحقيق في كل الملفات السابقة، مثل تقرير مراجعة ملف التخاصية، وهل تم حفظه؟ وما هي الإجراءات التي تم اتخاذها في ضوء النتائج التي تم التوصل إليها، وما مصير الجهود المبذولة على هذا الصعيد؟ لأن إهمال هذه الجهود يؤدي إلى مزيد من انفراط عقد الثقة بين المواطن والمسؤول، ويؤدي إلى مزيد من الاحباط ومزيد من الترهل ومزيد من تفاقم الازمة.
الاعتراف بالأزمة يقتضي العزم على تحمل آثار هذا الاعتراف، والشروع الجاد بالمعالجة الصارمة، ولا بد من اتخاذ قرارات حاسمة وشجاعة من أجل مواجهة هذه القضايا الكبيرة، وضرورة عدم الاستمرار بالمنهجية السابقة التي أدت إلى وصول رقم المديونية إلى 34 مليارا، والذي يصل إلى ما فوق 95% من الانتاج القومي.
الدستور