نصف قرن إلا قليلا… مات “السفير” اللبناني الذي وحده يستحق أن يكون “سفيراً” في دنيا العرب ..
جاهدت “السفير” بغية الإسهام في عروبة لبنان، ثم اضمحل أملها فأضحت لا تطمح إلا إلى لبننة الصحافة العربية، عبر غزو كوادرها للصحافات العربية في كل مكان؛ وقد كان.
ما من مبدع عربي إلا وله فيها نصيب. ولقد كانت حصتنا نحن المنتسبين إلى عالم الكتابة الأردنية، قدراً ورسالةً، في “السفير” وافرة. إذ إن الزميل والكاتب المقاتل أبو المعتز ناهض حتر، قد آوته “السفير” سنين عدة حين ضاقت على قلمه مساحات الوطن الشاسعة.
أكتب عن “السفير” اليوم مرثيتها، وحبي لها، واحتراما وتبجيلاً لمنشئها وراعيها ومغلقها أو مطفئ نورها؛ طلال سلمان (أبو هنادي) الذي غبطته على جسارة قلبه حين أطفأ النور وغادر. لأن إغلاق الصحف يكون عادة في بلادنا بشيء من الذبح المتدرج، حتى تفيض روح الصحيفة بقبضة من السلطة، في ليل دامس. أما أن يطفئ النور الضحية، فتلك من إبداعات طلال وتأبيد ذكراه الخالدة في مهنة صحافة العرب.
وأكتب عن “السفير” احتراما للأخ والأستاذ سمير الحياري الذي نفض عن قلمه تراكم الرذاذ، وكتب مودعا “السفير” بنبل عرفته عن قرب في سمير المهني منذ لحظة ميلاده محررا مبجلاً في “الرأي” مطالع ثمانينيات القرن الماضي.
وأحسب أن الحنين إلى سمير زمان حين عرفته جيلاً تاليا لجيلنا في “الرأي”، هو حنين لمرحلة ما قبل صحافة الرذاذ، لأن سمير كان عندي وسيبقى صورة من صور “الظلم الجائر” الذي وقع على جيلٍ كله ولاء ومهنية ودُفع دفعا إلى خارج الإطار بسبب ترجيحه الولاء للدولة، على ترجيحه الولاء للمهنة.
أحببت حلاوة عذوبة الروح، بحكمة وتأنٍ في سمير، باختطافه نفسه من نفسه بمقابلات يضطر أن يجريها بين الحين والحين لمقابلة تشبه سمير الحياري أستاذ مهنة حين يصفو طبعاً ومهنة، ولأنه طلب إلي أن أكتب عن طلال فسأكتب.
وأعرف أنه لن يعتب لأنني كاتبت “الغد” للبرهان على أن نصوصي في الكتابة لا تجيزها إلا يد سلطية؛ أكان القلم أخضر لمحمود الكايد الذي هو “فينا مثل أهداب الجليل”، أو تدقيقا ماكرا فذا من عيني جمانة غنيمات، أم نشرا مدعوما بالمودة بإجازة من سمير الحياري. كأنني لم أعرف في حياتي من أجاز لي مقالا إلا كان سلطياً أو سلطية، وناصر قمش الزميل الأستاذ الدائم.
وأكتب عن “السفير” بدافع من استفزاز نبيل مرهف حتى الاستبداد من حازم صاغية الذي أبَّن “السفير” وخلَّد طلال حاملا بروح نقدية سكينه مقطعا جسد التجربة (السفير) شقفةً شقفة، لكن من تحت كل قطعة قطعها كان يرمي بها في مرجل من دموع حرَّى. هل رأيت لحما تنضجه الدموع؟ هكذا فعل بالضبط حازم صاغية؛ رسم حازم صاغية مرثيته، ذلك المتمرد المجنون الذي مشى على درب الهموم الكبرى حتى حط به المقام “لندنيا” اكتفى من كل وعيه بالتمسك بحاسة الشم ظناً منه أن اسم “الحياة” حيث تتاح له الشمشمة اليومية بذكرى اسمها وخفايا حروفها لتشكل له ونساً ضاع منا كلنا وضيّعنا معه.
كنت أناقش ذات مرة الصديق أسامة سلامة. أستدرجه بالاستفزاز فأتعلم منه كيف يرى جيله جيلنا. وكنا نتفق كثيرا ونختلف أكثر. وأكثر ما توافقنا عليه على مدار العقد الماضي كله، هو رأينا في حازم صاغية وغسان شربل.
سألني ذات يوم: ما رأيك بغسان شربل؟ وكنت أخفي عنه أننا أصدقاء. قلت لأسامة: لو أن غسان شربل لم يفعل للمهنة أي شيء بعد أن عنون أحد كتبه “صدام مر من هنا”، فسيكفيه ذلك أستاذية دائمة. ثلاث كلمات وحرف جر احتاجها غسان فقط ليكتب محنة العراق، واصفا لنا نحن من عايشناه، وتكثيفا لمحنة تاريخية، سيمر عليها الجيل القادم وصفاً لأكبر محنة في التاريخ، بأقل قدر من اللغة؛ هو ذاك غسان شربل.
وأدعي أن مقالة حازم صاغية في “الحياة” الأربعاء الماضي، والتي شغلت الصفحة الكاملة عن طلال و”سفارته” في المهنة، أو “السفير” وطلالها، قد منحته عنوان الأستذة.
إن مقالة جمعت الحسرة والقسوة والتأريخ والوجع والجنون والشراسة والنقد الجارف والجارح معاً، كانت كلها شهادة ضمير. لكن المعلم حازم استمسك بأخلاقه المسيحية التليدة، حين توج نقده ومرثيته بانتسابه للتجربة، وإذعانه برغبة أنه ابن “السفير”. تلك أخلاق مضت وانقضت في دنيا العرب، وها هو حازم يجدد أخلاق الفرسان بقلم.
وأكتب عن طلال “السفير” لأن له قصة أردنية أسميها “حدوتة”. وإعادة سردي لها اليوم لا ينتسب إلى تبجح المتقاعدين الذين يسترجعون حكاياهم أو حكايات كانت لهم بمعنى المناشدة بالرجوع. بل إن قصة طلال و”السفير” الأردنية فيها حكمة وطنية ومهنية أترك لكل من يحب أن يقرأ هذه السطور ببراءة وبحياد، أن يستحضر ما أرنو إليه من ذكرى لوقائع “البكاء الوطني”، بالحادثة التي ذكرها الأستاذ سمير الحياري نقلا عن الأستاذ طلال سلمان، ومر فيها على سيدي صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال حفظه الله. وكنت أنا الشاهد الوحيد المذكور عقب لقاء سمو الأمير الحسن، أول مرة شمعون بيريز في تشرين الأول (أكتوبر) 1993 في واشنطن، عقب التوقيع بحضور المرحوم أبو عمار والرئيس أبو مازن اتفاق أوسلو في واشنطن يوم الاثنين العظيم في أسبوع واحد.
سأروي حادثة المقابلة التي أجراها سيدي الحسن مع طلال سلمان. ولن أذكر كل التبعات التي أنتجها عنوان المقابلة التي نشرت وقتذاك بالتزامن بين صحيفة “السفير” اللبنانية و”الرأي” الأردنية.
كان العنوان الذي نحته طلال سلمان على لسان سيدي الحسن “ذهبنا إلى واشنطن بمذكرة جلب أميركية”. وقامت الدنيا ولم تقعد إلا حين التقى الأمير الحسن مديرة تحرير صحيفة “يديعوت أحرنوت” ميرا أبرخ، ضابط احتياط متقاعد في سلاح الجو الإسرائيلي.
سأعود للتفاصيل في تلك الحكاية الأردنية. لقد حملني الأستاذ طلال سلمان حباً وامتناناً وطنيين، وعلمني أدب المهنة ومعاني تفهم الاختلاف.
العامان 1992/ 1993
يمكن تسميتهما سنتي “العجب والعرب” على الصعيد الوطني، لشدة أهوالهما. إذ إن أحداثا ثلاثة تراكمت علينا مثل تقافز الغزلان.
أولها، جرح الأردنيين قومياً، انقضاض الغرب المتوحش شأنه دائما تجاه قضايا العرب، بصورة جائرة على العراق لأكثر مما تحتاجه الكويت لاستردادها. واحتفظ الأردنيون بتلك الذاكرة “المؤسطرة” التي ذهبت بهم بعيدا مع مخيالهم العروبي، حين اصطفت مئات السيارت على شارع الاستقلال في عمان تنظر للسماء إذعاناً ورغبة؛ صورة للسيد الشهيد صدام حسين في القمر. ومنهم من بالغ فقال إنه نادى عليه فرد: “شلونك يا فلان”!
لم تكن القصة خرافة مثل الغول والعنقاء؛ كانت موقفاً أردنيا للتاريخ الحقيقي؛ لنا ضد موقف لا تاريخي حبكه المستصغرون لنا من إخوة يوسف.
لقد مدّ الأردني رجله أول مرة أسوة بأبي حنيفة، قائلا لعرب التهمة: نحن أول دولة للعرب منذ مطلع الفجر.
تبعت ذلك صورة الحسين الملك الرهيف الذي أعلن عن تفاصيل مرضه بالكامل. وحين عاد ملبيا موعده بشغف ليلقى الأردنيين كما فعل طوال حياته، وحين أحنى شخصه ومرضه وتاريخه وعروبة مواقفه وسلالته الملكة بنت الجوهرتين “الزين والشرف”، كان يصدع لأمر خالقه سبحانه “في مقعد صدق عند مليك مقتدر”. حينها رنخ الفرح الأردنيين ونالوا زهوا جميلا وآمنوا أكثر من أي وقت من ذي قبل أن الله يحمي حماهم الفقير الموارد الغني الإرادة.
أما الصورة الثالثة التي تبعت ذلك بحكم البقاء والنجاة بتلازم الدعاء والقطران لا لرد القضاء ولكن أن يلطف الله بالأردن، وقف أمير هاشمي، عضيد الحسين وقرة عينه، على نجيل البيت الأبيض قبل غروب شمس إحدى شموس واشنطن التشرينية ليقول بإنجليزية ليس فيها عوج: “نحن لم نأت لنأخذ الصور التذكارية. وأي سلام لا ينعكس على الأرض والإنسان في منطقتنا، وأولهم الشعب الفلسطيني، فاشل ولا قيمة له”. كان في تلك اللحظة بيل كلينتون يتوسط الأمير وشمعون بيريز ويهز برأسه معجبا موافقا على ما قاله الحسن.
دوما أردد أمام من أحب كم هو محظوظ من لم يعش تلك الصور بأحداثها وليس لديه أدنى مسؤولية. يومها كان القرار السيادي أن لا يتسرب اللقاء لأحد قبل أن يطلع عليه “سيدنا”.
كانوا جميعا هناك. ميشيل حمارنة أول الشيب، وعون الخصاونة المكسور أحد أصابع قدمه يداري وجعه على الصعيدين، وأحمد منكو وهاني الملقي. كذلك كان في الجوار الشاب مروان المعشر حين كان يشغل وظيفة في واشنطن ملتبسة المهام، وهي بذات الصفات التي كان يشغلها ناصر جودة في الوقت نفسه بلندن؛ وظيفة صنعت على عجل لشيء سمي (JIB) مركز الإعلام الأردني. كانت أول مرة أتشرف بمعرفة الدكتور مروان. ومن تلك اللحظة حتى اللحظة هذه لم يقنعني رجل الدولة هذا بأي شيء سوى أمرين؛ أنه ابن ناس ونظيف ووطني، وكذلك معجب بالحضارة الأميركية حد الدهشة، وتبهره الأضواء والإعلام على حساب المضمون والفكرة.
أخرت قاصدا ذكر سمير الرفاعي حين كان يشغل في ذلك الوقت وهو شاب في ميعة شبابه وقوة حماسه، منصب السكرتير الخاص أو ما شابه. لكن سمير وأنا الذي انقطعت عنه منذ أن اختار فريقه الوزاري آخر مرة و”هورت” مركبته الرئاسية بأسرع من المتوقع، استطيع في المقابل أن أشهد فيه أنه نعم وخير من رأيت من البشر خلقا، ومكتومية، وولاء ووطنية. ولقد قدم للأردن في تلك السنين الصعبة ما كان جيله كله مشغولا عنه بقضايا لا قيمة لها.
قد يرى آخرون في سمير الرفاعي عكس ما أراه، لكن لا أحد يستطيع الزعم انني أريد من شهادتي هذه سوى مرضاة الله.
لقد كان سمير في رحلة سمو الأمير الحسن للقاء بيريز. إنه الوحيد الذي كان يعرف بالمهمة. وأحب أن أضيف هنا أنني أظن أنه حقق لتلك المهمة كل سرية وتفانٍ وإخلاص.
لماذا بكينا في واشنطن؟ كل له أسبابه في ذلك، وحق على كل واحد بكى أن يقول أسبابه.
أنا حين كلفني الأمير بمهمة ليلتها عبر الصديق والأستاذ ميشيل حمارنة، الحقيقة أنني أبيت الانصياع للأمر قبل أن أرى الأمير.
وحين دخلت عليه في جناحه في فندق “ويلدرز” كنا وحيدين. وتذكرت في لحظة كل أفضاله ومكارمه ليس عليّ وحدي، بل على كل جيلي. وحين تنهد مطلع بيت الشعر مرددا بأسفٍ بائن “مشيناها خطى كتبت علينا”، كان بيت الشعر ذاك الذي تركه الشريف الأكبر من كل المناصب المغفور له الحسين بن علي، حكمة ووصية على أمواج العقبة قبل أن تباشر باخرة النحس والنفي البريطانية “دلهي” الضجيج “مهمرة” بصوتها القبيح أن حيّ على المنفى.
في كل الأحوال، كان الأردن في مأزق بقاء في تلك اللحظة. أبو عمار يرحمه الله، استودع سره لأبي مازن ونال تأشيرة دخول نرويجية فدخل بها البيت الأبيض.
والرئيس “المبارك”! ما شاء الله فعل! الذي وصفه الرئيس صدام حسين بالخفيف، وأشهد الله أنه أكثر من ذلك، كان قد استبد بالمشهد كله؛ مالا، وجعجعة، ووهم عودة قيادة للعرب. والمرحوم حافظ الأسد غسل فؤاده القومي وخلع أحذية جنده في حفر الباطن، ظناً منه أنهم بلغوا الوادي المقدس طوى.
والعراق كفنه الحصار، ولم يبق في الساح إلا “أيوب الهاشمي” ويوسف الأردني.
كان الأردن على شفا جرف هار تقسيمه كان الهدف المنتظر التنفيذ كما قال الحسين لقادة جنده باجتماع تحت الشجرة في الجنوب. وعدنا، وحين عاد الحسن ظل حاملا في روحه وعقله علامة استفهام يريد أن يوضح لماذا ذهبنا إلى هناك. وذات يوم كان ثمة وشاية تدحرجت على موائد الكبار ضد الأستاذ الطيب الدكتور علي محافظة أطال الله عمره. وشأن الحكام المحترمين استأذن الحسن الحسين ليتثبت بنفسه لأن ريبة حول الواشي كانت تحوم من حول الوشاية.
تم ترتيب غداء عمل في ضيافة الأستاذ د.كامل العجلوني رئيس العلوم والتكنولوجيا. كان الهدف المعلن أن يضع الحسن الأكاديميين في صورة الوضع العام، وليتفرع عن ذلك بترتيب من العالم الجسور ابو صخر مقابلة “طرفانية” مع الدكتور الطيب المحافظة.
معالي أبو صخر؛ الدكتور العجلوني، ما إن انتهى الأمير الحسن من عرضه الذي اتسم بالصدق والوضوح، حتى رد عليه قائلاً: “سامحني سمو الأمير، من يعمل في معيتك كلهم يستحقون السجن. الناس بصراحة مو فاهمة القصة بهذه الصورة، لازم تقولوا للناس الحقيقة”. كان يقصد ذلك الوطني اللقاء الأول بين سمو الأمير الحسن والمسؤول الإسرائيلي.
أرسل سيدي حسن إشارته بالموافقة؛ ليس على إرسالنا للسجن طبعا، وإنما بضرورة تبني فكرة الدكتور العجلوني بأن نقول للناس الحقيقة.
على مدار يومين انهمكنا في دراسة البدائل والخيارات، وأي الوسائل اكثر جدوى وفائدة.
بالمصادفة، كنا نتسامر كل الصحاب في كهف الحب والمودة بمستراح الحاج محمود سعيد بارك الله روحه في مزرعته في عين الباشا. واذا بهاتف يعلمني من المقر السامي حيث كنت أتشرف بالعمل في ذلك الوقت، بالقول إن الأستاذ طلال سلمان بالبلد ويرغب في مقابلة سيدنا، وسيدنا يرحمه الله كان في سفر. واتصلوا بالأخ الزميل الحميم الصديق الدائم علي الفزاع، فأحالهم علي بحكم أن سيدي الحسن هو نائب الملك.
عبد الله العتوم مدير عام وكالة الأنباء الأردنية كان وقتذاك هناك؛ وباسم سكجها الذي يبلغ سن الحب في هذه الأيام، صاحب صحيفة “آخر خبر” كان هناك. ومحمد الخطايبة زير المعرفة الذي لا ينضب كان موجودا. وغيرهم. تواصلت مع الأستاذ طلال. وبتشجيع وإلحاح من باسم. الحق أن حديث معالي أبو صخر في بحر ذلك الأسبوع كان في لاشعوري حين هلت فكرة طلال سلمان. وهل أحسن قولاً من قول حليف حافظ الأسد وفي “السفير” ومن بيروت لنقول ما يجب أن يقال.
كان يقيم في فندق الميريديان، وحضر إلى عمان للمشاركة في ندوة إعلامية أقامتها جامعة اليرموك. وبهدوء طبع ريفي يأبى أن يغلق ريح القلق الدائم، أبدى ابو هنادي رغبته. فقلت له إن سيدنا في سفر. فرجع بالقول إذا ممكن أن ألتقي سمو الأمير الحسن. من دون تردد أخبرت سيدي الحسن هاتفيا. وأتذكر أنه كان يوم أربعاء. وصوبني سموه حفظه الله، أن أرتب مع الضيف ليكون السبت أو الأحد موعدا للقاء.
التففنا حول الحبيب طلال في عشاء عاجل في مطعم الديوان العربي في شارع وصفي التل. وكان هذا المطعم لرجل كريم محب للحياة من عائلة “ملحم”. وتوفر المطعم على مطرب لبناني اسمه رضوان كان مراد المحبين للطرب الأصيل.
كنا أول مرة وجها لوجه مع هذا الصامت الذي يشبه كل المختزلين في ملامحهم عناد العرب وهزائمهم وآمالهم. ووجه طلال سلمان خلطة أردنية حين يقطب حاجبيه، وسورية حين يبتسم، وفلسطينية حين يرتاب، ولبنانية حين يعلق. وأجازف بالإضافة إن فيه بعض هوى نجفي لعناد معتق واستحضار مفردات لغوية تراثية لكنها ديناميكية. أتذكر أنه استهل حديثه بسؤال” أظني ارجعتوا هلا من واشنطن وبدكم تتفرغوا (…) الكلمة حلوة لا تستبدل لكنها لا تذكر. وهكذا تعاطينا الزمالة والصداقة معا كأننا على معرفة منذ ألف سنة.
***
في اليوم التالي، غادر وودعته في المطار إلى الإمارات العربية المتحدة. أحب ألا أدخل في التفاصيل، لكنني عرفت من مكالماته التي أجراها أمامي من دون تحفظ وكأننا أصدقاء قدامى، أنه كان يلبي مهمة بين الشيخ زايد والشيخ رفسنجاني. في مساء السبت عاد إلينا في عمان.
صبيحة الأحد، كنا في مكاتب المقر السامي. سألني وقد تبدت كل أناقته مرة واحدة: هل ثمة محاذير على الأسئلة مع سمو الحسن قبل أن ندخل؟
داعبته: أنتم يا طلال أولى بأهل البيت، ستجد من سموه ما يسرك.
لم يكن يحمل قلما ولا ورقة، يرتدي بدلة كحلية باهية. بدأ الحوار. وكان طلال سلمان متحفظا محايدا مشككاً في مبررات الذهاب إلى واشنطن. وخرج بعد ساعات من الحوار، لا أقول حليفا، بل صديقا متفهما لما نحن عليه.
ونشرت المقابلة التي أحدثت دويا في الأوساط اليهودية، من أوزاليه في المغرب، حتى افلن روتشيلد في لندن ومن شمعون بيريز حتى اسحق رابين ومن كلينتون حتى كريستوفر.
كان العنوان بحد ذاته موقفاً؛ “مانشيت” السفير والرأي معا بالتزامن: “ذهبنا الى واشنطن بمذكرة جلب”.
مما فاتني قوله إن سمو الحسن لحظة دخول الأخ طلال، وبعد أن تناول قهوته العربية، قال له مداعبا: ثبت مسجلتك لأن فيها بعض ميلان. كان طلال قد ثبت دبوسا صغيرا جدا في طرف جاكيت بدلته كأحدث صيغة للتسجيل. من هناك دخل سمو الأمير المفكر والأستاذ الصحفي طلال في حوار تجاوز الساعات. وكان في نهاية اللقاء أن اصدر الحسن توجيهه أن يكون لطلال مقعده في كوكبة أعضاء منتدى الفكر العربي. ونمت بينه وبين الأردن حالة ودّ مهذبة، سنوات ظل معنا وظللنا معه في حالة من التصافي تخلو من العبث.
ولما آلت الأمور في وقت لاحق وتم ضبط الإعلام فيها على وقع مرحلة جديدة اختطف فيها أحد جنرالات المرحلة بالتحالف مع أحد الوزراء الليبراليين قرار الإعلام الوطني واحتكاره، أفضت النتيجة تلك إلى توقيف الأستاذ طلال في المطار ومنعه من الدخول.
بعدها تحول شعار “السفير” تجاه عمان من “فرشتلك رمشي وقلتلك امشي” إلى أغنية “تلولحي يا دالية”.
طلال سلمان و”السفير”
سأظل على زعمي الدائم أن إغلاق صحيفة لا يدانيه في الحزن إلا وفاة ابن جميل. وسأظل أعتقد أن الذي يتآمر على أي صحيفة لإغلاقها فإنه يحمل إثم بذرة لدكتاتورية بغيضة، وإنه يتوفر على قلب قبيح.
ومن الحق أن أقول إن أي دولة تقبل على نفسها إغلاق صحيفة، عليها أن تتحس وتتلمس جسدها، لأن إغلاق الصحف الورقية على معنى التفصيل، هو أول إشارة لارتفاع حرارة الجسم الذي قد يفضي إلى غيبوبة دائمة.
نصف قرن إلا قليلا… جاهد طلال بين خنادق الثوار وعتبات القصور، وغادر مرة الخنادق إلى الفنادق، وعمل أيضا عكس ذلك لتظل “السفير” مسفرة عن وجهها العروبي. نخالفه في الكثير ويخالفنا أكثر، لكن لكل فقه مفسروه وشراحه، ولكل علم سطوحه، ولكل فن حماته ومنصاته، ولكل مرحلة ذوقها الرفيع، ولكل زمان جميل رجالاته المجملون له ونسوته الجميلات به، مثل وديع الصافي وقبة الصخرة وفيروز وثلج جبل الشيخ والكحلة في عيني عنبر إسلام وتراث آل تقلا وهلال يعقوب صروف وجورجي زيدان مثل شمس نهار بيروت وغسان تويني مثل سفير الثقافة والأناقة جيزال خوري.
ولكن ثمة طلال واحد. كان سفيرا للعرب ليس أحد قبل الكبير ذي العمامة النبوية عبدالله بن الحسين الذي أطلق اسم بكره طلال بصيغته هذه، لأن طلال حتى تكون صيغة مبالغة على وزن فَعّال أو بجر الطاء على وزن فِعّال، هو وليس أحد قبله عام 1909 أطلق اسم طلال في قلب الجزيرة العربية ثم تبعه العرب أجمعون.
أحب أن أظل على هذا الفهم اللغوي ما لم يفنده لغوي عتيد.
طلال سلمان مشى درب الآلام من طهران حتى طرابلس الليبية حافيا، عاري الصدر إلا من قلمه وحلمه، وسبح في دمه في محاولة اغتياله. كان يغير ويبدل، يرتفع بلبنانيته فيخفض منسوب العروبة، ولاحقا ومباشرة يجري تعديلا جذريا.
لكنه ما خذل ثلاثة في حياته حتى أطفأ بيده مصباح زيت “السفير”: ظل لابن القرداحه حليفا في قبره ومع ابنه، وكان مؤمنا بعروبتهما. وذلك يحسب له لا عليه.
وأوفى كنذر للسفير وحادي ركبها، فظل يجدد في محراب اللغة والمهنة.
أما الثالثة، فإن عفة من لسان وجمال في الحروف قد صبغت طلال سلمان على مدى خلافاته وتحالفاته. وظلت روحه قادرة أن “تفقع” النكتة في وحل الليل والعوز والعتمة.
أشهد له بالملموس والذي من باب الأدب أن يظل في الصدور، أنه كان عفيفا في النفس، وأنه كان نظيفا في القلب، وكان جميلا أيضا.
هل يعيب طلال أن مد القلم بغمزة ليؤمن رواتب أهل “السفير” آخر الشهر؟ لا يعرف الشوق إلا من يكابده.
تمر في خاطري بحسرة مذهلة هذه اللحظة نظرة واحدة من عيني الزميل الذي امتهن الرقابة والتصويب فهد العبادي يرحمه الله، حين كان يمد نظرة خجلى أواخر كل شهر تستفسر من عمر سلامة إن كان قد جمع رواتب ذلك الشهر أو نصفه أو نصف نصفه في رواتب صحيفة “الهلال”.
تلك النظرة تبيح ان تحيل صاحب الضمير إلى متوسل، وخشية أن أقول وصفاً يبدو أنه جريء بأثر رجعي: “إن التسول لسد رمق الصحاب عبادة”.
رحم الله عمر بن الخطاب صاحب أجمل قلب وعقل فهم الإسلام وتجرأ رضوان الله عليه وأوقف حداً من حدود الله لأن الرمادة والسغبة مذلة. عاش طلال سلمان، وعاش ابن السفير إلى حين ميسرة تأتي دولٌ تعرف أن تقرأ الخطاب القرآني مبتدئة إما بـ”اقرأ باسم ربك الذي خلق”، وإما “ن والقلم وما يسطرون”.
نقلاً عن الغد.