ربما كانت هذه هي المرة الخامسة أو السادسة التي اكتب فيها تحت هذا العنوان خلال العقود الثلاثة الاخيرة. واذا كان ذلك دليلاً على أن المسألة الثقافية في البلاد تؤرقني على نحو خاص, فإن فيه دلالة ايضاً على ان الواقع الموضوعي للثقافة الوطنية في الاردنية قد بلغ درجة تقتضي قيام مجلس اعلى للثقافة يتم تشكيله من مثقفين حقيقيين وعلماء بارزين, لا على نحو ما كان من تجارب سابقة روعيت فيها توازنات واعتبارات لا علاقة لها بالثقافة, وكان مصيرها الفشل الذريع.
قد لا يرى كثير من المستفيدين من فساد حياتنا الثقافية حاجة الى مثل هذا المجلس, وقد ترى بعض البؤر والخلايا الايديولوجية ان وجود مجلس أعلى للثقافة الوطنية يرسم الاستراتيجيات ويحدد الاهداف, ويقيّم الاعمال, مانع من هذه الفوضى التي يرتع فيها المدّعون, ويتنفج فيها الضعفة المهازيل, ويضطر فيها كبار المفكرين والنقاد الى الصمت الكظيم لما يرونه من رواج العملة الرديئة في الساحة الوبيئة, ويختلط فيها الحابل بالنابل, ويسود الادهان والتملّق وتضطرب الموازين.
انها الفوضى التي لا يمكن ان تكون خلاّقة بحال, وما كان لفوضى ان تكون خلاّقة ابداً أو أن تنكشف عن نظام مشهود محمود أو غير محمود إلا في وعي مزيّف أو ذهن مريض, ولا نريد أن يأخذنا الاستطراد هنا فنبعد عن واقع حياتنا العقلية والادبية وما تحتاج اليه من ترشيد وتسديد, فنقول غير متخافتين بما نعتقد إنه آن اوان الخروج من هذا الاضطراب والميدان, وإن في مقدمة ما نراه من طرائق ذلك تشكيل مجلس اعلى للثقافة يكون اعضاؤه مثقفين كباراً وادباء مشهوداً لهم بالابداع وعلماء بارزين.. لا اصحاب مناصب رسمية او اعتبارات جهوية. وحبذا لو يكون سمو الامير الحسن بن طلال هو رئيس هذا المجلس الاعلى للثقافة, وذلك لضمان المستوى والجدية والفاعلية فيه من جهة, ولتوافق الاردنيين, ومعهم كثير من العرب والمسلمين على رمزية سموّه وبالغ ما يمثله من قيم التنوير والاصلاح والانفتاح, على مستوى الامة ومستوى العالم على حد سواء.
لقد طال الامد على العابثين في واقعنا الثقافي وتراخى حبل الفساد على غاربه فيه, وصار لزاما أن يتنادى المخلصون القادرون للحؤول دون مزيد من العبث العابث, وما نقترحه هنا من قيام «مجلس اعلى للثقافة» هو واحد من سبل شتى يمكن لنا بانتهاجها دفع الهمج الهامج عن وجه ثقافتنا الأصيلة, كما يمكن لنا بناء خطابنا للعالم على نحو لا التباس فيه ولا دخل ولا اغماض.
وهو, بعد, مجرّد اقتراح, وإن كنا نحدس بأن بعضهم سوف تغشاه صفرة منه أو يأخذه منه امتقاع.
الرأي