لا يمكن للافراد ان يصنعوا اخلاقهم لوحدهم،فالاخلاق ليست قوالب جاهزة تولد مع الناس، وانما هي افراز لظروف المجتمع واحواله،وكما ان للحرية اخلاقها،وللاستبداد اخلاقه،فان للغنى والفقر اخلاقهما ايضا..(هناك-بالطبع فرق بين اخلاق بعض الاغنياء والفقراء وبين اخلاق الغنى والفقر بشكل عام).
في تراثنا :” اذا سافر الفقر الى بلد قال له الكفر:خذني معك”، ولدى فقهائنا تشريعات ومأثورات كثيرة حول موقف الاسلام من الفقر لدرجة ان احدهم افتى بنزع الملكية من الاغنياء اذا ما تعرض المجتمع الى مجاعة وامتنعوا عن توزيع بعض اموالهم على اخوانهم الفقراء(المال في الاسلام لله تعالى، والانسان مجرد وكيل ومستخدم فقط)،كما ذهب اخرون الى الزام اهل بلد مات فيها انسان من الجوع وهم يعرفون ذلك بدفع ديته باعتبارهم مسؤولين عن موته(تصور؟)،وما نزال نذكر مقولة ابي ذر حول السيوف التي يفترض ان يشرعها الجوعى،واقسم علي كرم الله وجهه بقتل الفقر لو كان رجلا..الخ.
الشاهد ان الخوف من الفقر لا يرتبط بالحرص على مصلحة الفرد والانسان-على اهميتهما- وانما على مصلحة المجتمع وامنه واستقراره،فاخلاق الناس وممارساتهم في مناخات النعمة والرفاه والعافية غيرها في ظروف العوز والحاجة،والنفس الانسانية التي يتجاورفيها الخير والشر،مرآة تعكس واقعها وتفرز ما فيه، تحب الحياة حين ترى ما حولها جميلا وتبغضها حين يحيط بها السواد...
هذه-بالطبع- ليست مقدمة لمحاضرة في علم الاجتماع او فلسفة القبح والجمال،ولا محاولة لتجريد الفقر من بعض قيمه التي نعرفها اذا ما رافقته القناعة والعفة والتساوي في الستر وبساطة الحال،ولكنها مجرد ملاحظات في سياق ما يحدث في مجتمعنا –وما هو مقبل عليه- من ظروف اقتصادية صعبة،وتوقعات لامتداد ظاهرة الفقر مع ارتفاع الاسعار وغياب المعالجات الحقيقية،واحسب ان الارتدادات ستكون مخيفة،لا على صعيد الانسداد السياسي والاقتصادي الذي نشكو منه،وانما-ايضا- على صعيد اخلاقيات الناس والمجتمع،ولنا ان نتوقع-هنا- تصاعد العنف بانواعه،والجريمة باصنافها،وشيوع ثقافة الفساد والنهب،وتدني قيم النظافة والاستقامة،وتراجع مفاهيم السماحة والرحمة والرضا والقناعة..الخ،وهي اخلاق قد تكون جديدة على مجتمعنا وتحتاج الى الرصد والانتباه لكي لا تتحول الى ظواهر اجتماعية مستقرة.
مجتمعنا ما زال بخير،ونتمنى ان نستخلص وننتزع من الفقر واحواله افضل ما فيه من قيم كنا نعرفها-وربما حتى الان- في بلادنا التي سلم كثير منها من طلاءات المدنية واغراءاتها المتوحشة،كما نتمنى ان نتجاوز محنتنا الاقتصادية باقل ما يمكن من خسائر من خلال رفع طاقة التكافل والتعاون،واحياء مفاهيم الفزعة والعونة(دعك الان من وعود الحكومات واجراءاتها؟)،وتقنين المسؤولية الاجتماعية بحيث تصبح ملزمة للمؤسسات والاغنياء..وابداع اي حلول جديدة وفاعلة تخرج مجتمعنا من سنوات “الرمادة” .
الدستور