ما لم تكن لدولة في دولة سفارة، فهذا يعني ان لا اعتراف ولا علاقات دبلوماسية .وحين تصبح الصحافة العربية بلا «السفير» فهذا يعني ان شرياناً رئيسياً من حبر، هو دم الصحافة، قد انقطع. شريان سيظل ينزف لكن على ضفتيه سيظل ينبت بنفسجا حزينا وشقائق نعمان تشهد ان شهيدا قُتل هنا في اول أيام 2017 برصاص رأس المال الذي كان ذات تاريخ عبداً للقلم فتمرد وقتل سيده .
كان محزناً أن ترى طلال سلمان وهو يوقع على شهادة وفاة «السفير» ثم يغلق القلم الذي طالما كتب للعروبة و لفلسطين وللذين «لا صوت لهم»،ثم يتناول معطفه ويغلق باب «السفير» و..يمضي .عيناه بحر حزن لكن قامته منتصبة ،شأنه شأن الكبار الذين يواجهون الهزيمة بكبرياء الرجال ، وأنفة الصقور.
لست من جيل طلال سلمان لكني من تلاميذ المدرسة اللبنانية في الصحافة ، حين كان ثمة مدرستان قلعتان ، المصرية و اللبنانية . تعلمت من «السفير» و» النهار» كيف يُصاغ الخبر وكيف يُختصر العنوان وكيف تبدا الخبر بالمعلومة مباشرة ثم تدخل في التفاصيل ،تعلمت كيف تعيد صياغة القصة الاخبارية بلغتك انت لا كما اوردتها وكالات الانباء وان تترك بصمتك على العنوان و على الخبر دون ان تلوي عنق الحقيقة .تعلمت ايضا ان اللغة العربية عروس اللغات ويجب التعامل معها و بها بدقة نحّات .
لم اعمل مع طلال سلمان لكنني تعلمت الكثيرمنه ومن غسان تويني وميشيل ابو جوده وسمير عطاالله في «الانباء» الكويتية التي كانت اول باب ادخل منه الى بلاط صاحبة الجلالة .تزاملت مع صحفيين من مدرسة السفير والنهار والانوار :وجيه العجوز، نظير حمصي ،محمد بنجك وغاصب المختار وحسين حسونة وغيرهم. تعلمت ان يكون الصحفي ملتزما عربيا ووطنيا ومهنياً و اخلاقياً .ان لا تبهره الالوان البراقة ولا تبعده عن قضية العرب الاساسية،فلسطين .فعدوك معروف حتى لو تلوّن البعض، وان الحق معك حتى لو عشعش الشيطان في الوطن العربي الذي كان يوما من الماء الى الماء قبل ان يمزقه سكين الطائفية و العنصرية و الاقليمية ليصبح «من الدماء الى الدماء».
التقيت طلال سلمان اول مرة في اواسط التسعينيات حين كنت اعمل في جريدة «الخليج» الاماراتية .جاء زائراً لرجل عربي حتى النخاع هو مؤسس وصاحب الجريدة تِريَم عمران وشقيق الدكتور عبدالله عمران ،رحمهما الله. كان الحديث كقهوة المساء بلا سكّر وبلا.. قهوة، لما آل اليه حال الامة بسبب غلطة «الشاطر» التي بألف، والتي أضاعت مجدا كان سيستعاد، وقوة تحمي العباد والبلاد .كان طلال و تِريَم وعبدالله وجيل الامة العربية الواحدة، كمن ابتلع السكين حتى وسط الحلق ،لا هو قادرعلى قول ما يريد ولا هو قادر على الصمت، فيما المؤامرات تحاك ضد العرب والتي جاءتهم مؤخرا على هيئة «ربيع» عاصف مدمر .
بعد عشر سنوات التقيت طلال في البحرين وكنت في جريدة «الوقت».كان مدعوا من وزيرة الثقافة ايامها، المثقفة العروبية الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، ليحاضر عن الصحافة العربية .قبل ان يلقي محاضرته جلست معه وبادرته بالسؤال : كيف شايف الامور؟ قال: والله يا رشاد ما عدنا نقدر نشوف شي.و..كاد يدمع.
بدأنا الحديث عن السفير فإذ بنا نتحدث عن طلال. وهل ثمة فرق ؟ فهو مؤسسها العام 1974وصاحبها والذي تعرض لمحاولة اغتيال العام 1984 .اما «السفير» فهي التي ولد فيها «حنظلة» ناجي العلي الذي قرر ان لا يكشف عن وجهه حتى تتحرر فلسطين، كما كان يقول لنا في الكويت . وها هو طلال يغلق «السفير»وقد اصبحت في الارض العربية «فلسطينات» أنست البعض ..فلسطين !!
آلمنا توقف «السفير» لكن الصحافة العربية الورقية لن تتوقف ،ففي كل نهاية نظن انها النهاية ،والشجر يبقى اخضر .
rashad-ad@hotmail.com