مفهوم البيعة عند الإسلاميين
غيث هاني القضاة
11-01-2017 11:30 AM
ثار نقاش بيني وبين احد الأصدقاء قبل فترة بخصوص مفهوم البيعة الذي تشترطه بعض التنظيمات الإسلامية أساسا للانتظام معهم أو لتأكيد مبدأ الولاء والالتزام بينهم، وقد بت مقتنعا أن هذا المفهوم لا ينطبق اطلاقا على أي تنظيم إسلامي ولا يمكن بأي حال من الأحوال تطبيق مفهوم البيعة (الدينية) الذي مارسه النبي محمد عليه الصلاة السلام مع أصحابه على قادة التنظيمات الإسلامية المختلفة هذه الأيام أو في أي شأن سياسي آخر .
لكن من الواضح أن هنالك مجموعة من المأثورات النبوية المتعلقة بموضوع (البيعة) التي يرددها الكثر، والتي قد تحكم أحيانا (بالجاهلية) على من فارق الجماعة، أو مات و ليس في عنقه(بيعة) للإمام أو الخليفة او الامير، وأحيانا يتم استخدام هذه الاحاديث لتأصيل طاعة (الامراء) و تحريم المعارضة لهم ،و قد يجعلها بعضهم اثما أو خطيئة، علما بأن الصحابي الجليل (سعد بن عبادة) مثلا ومعه رهط من بني زُهرة وقوم من بني هاشم وغيرهم ، رفض البيعة لابي بكر رضي الله عنه طوال خلافته ورفضوا البيعة ايضا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يحدث أن أكرهه أحد على (البيعة) أو عاقبه على خلافه للامة في هذا الشأن، و بقي علي بن ابي طالب رضي الله عنه مثلا رافضا للبيعة حتى توفيت زوجه فاطمة بفترة وصلت الى ستة أشهر كما تقول الروايات !
هنالك حديث شريف في صحيح مسلم نصُه يقول( من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حُجة له، ومن مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) وقد أاستخدم هذا الحديث استخداما سياسيا في جميع الحركات والجماعات الاسلامية ، علما بأن من درس الحديث من كبار المفكرين والباحثين ، يقولون بأن (البيعة) التي يتحدث عنها النبي صلى الله عليه و سلم ، بيعة الذين آمنوا للرسول عليه السلام، الذي دعاهم حينها للإيمان ،فهي بيعة له بالنبوة، وهي البيعة التي انتقلوا فيها من الكفر الى الايمان ،فهي لم تكن (بيعة سياسية) بل (بيعة دينية) و هي تختلف عن بيعة رئاسة الدولة والانصياع لأوامر الدولة وتعليماتها بموجب عقد اجتماعي بين المواطن والدولة .
فنحن أمام (بيعة دينية) وليست (بيعة سياسية) حسب النصوص الواردة وحسب أسباب نزولها ،وهي ليست البيعة لأمراء السياسة و الولاة و الرؤساء في الدولة أو التنظيمات أو الجماعات و التي يحلو للبعض غالبا أن يأتي بالنصوص التي تتحدث عن(البيعة السياسة) ليعطيها بُعداً دينيا عقديا ،ومن غير المقبول حقيقة هذا التسخير للمأثورات الدينية و الاحاديث الشريفة لكي تصب في صالح جماعة هنا أو هناك، لذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم أشد حرصًا على التمييز بين البيعة السياسية و الدينية، عندما كانوا يسألونه عليه السلام :أهو الرأي و الحرب و المشورة يا رسول الله أم هو منزل انزلكه الله؟
من الواضح لمن يقرأ التاريخ أن المسلمين لم يختلفوا في الاصول أو العقائد الى حد كبير، بل كان الخلاف حول السياسة و فلسفة الحكم و منصب الخليفة ، ما أدى الى نشوء الفرق و المذاهب و استفحال بعض الصراعات و الحروب فيما بينهم ، ومن الغريب أن معظم الخلاف كان بين تلاميذ أصحاب الافكار و بين (تلاميذ تلاميذ) هؤلاء بشكل أكبر! واذا كانت مصلحة الوطن أو الامة هي الغاية فلا بأس أن تتعدد الآراء و تختلف وتتنوع الطرق التي يسلكها هذا أو ذاك حتى وإن كانوا ينتمون لجماعة واحدة، فما دام هنالك اتفاق ضمني على المقاصد و الغايات فلا بأس في الاختلاف ، بل هو حافز للإبداع و التطوير و التنوع في اطار الوحدة ،وقد يكون سببا رئيسيا من اسباب الانتصار والتقدم .
الارتباط بالجماعات الإسلامية أيا كانت باعتقادي أنه ارتباط أدبي و اخلاقي أولا و آخرًا ،مثلهُ مثل أي ارتباط أخلاقي وأدبي بين البشر، يُحسن فيه من يُحسن ويُسيء فيه من يُسيء ، و ليس هنالك اي داع الى ممارسة طقوس (البيعة) وترديدها، أو تلاوة نص البيعة أمام هذا الشيخ أو ذاك، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تسخير مصطلح البيعة الدينية ليخدم بعض التنظيمات ويجعلون ممن خرج عليهم كمن فارق الطريق الصواب وشذ في النار ! لان البيعة أو "العقد" بين البشر مهما اختلفوا بيعة قلبية وأخلاقية يتحلل منها الانسان متى شاء ومتى وجد نفسه بعيدا عن أهداف هذه الجماعة أو تلك.
يجب أن نتحرر من سطوة النصوص القديمة على مفاهيمنا بعد نقدها نقدا موضوعيا يثريها ويغسلها مما لحق بها من عوالق وشوائب، وأن نجعل للعقل مكانا أوسع، وألا نسمح لاحد باستخدام "سيف" النصوص لتوجيهنا كيفما يشاء.