يكثر الحديث في الآونة الأخيرة في مساجلات فكرية عن الدولة المدنية ، والعلمانية من جهة أو الأصولية الاسلامية من جهة أخرى، وتأخذ هذه المساجلات طابع المناكفة والمناظرة ولعل التاريخ البشري لم يشهد صراعا بين منهجين كالذي شهده وما زال كالصراع بين العلمانية والاصولية.
فالأصولية تدعي وتعتقد انها امتلكت الحقيقة المطلقة فيكون الاقصاء لكل مخالف لها هو من الاساس البنيوي لمنهجها حيث انه يستحيل ان يكون هناك حقيقتان مطلقتان ومتناقضتان او مختلفتان واذن لا بد من ان يعمل كل فريق على اقصاء الاخرين المخالفين وبمبدأ من لم يكن معي فهو بالضرورة ضدي. يأخذ الاقصاء اشكال عدة، فيبدا بالإقصاء الفكري والثقافي ومحاربة كل ما يأتي به الطرف الاخر على اعتبار انه شر وباطل ويتصاعد هذا الاقصاء بعد أن وجد من وسائل التواصل الاجتماعي مرتعا ومتنفسا له فيتم تكفير الناس أو إرهابهم أو تهديدهم عن التعبير عن الرأي وقد يتعدى ذلك الى الإقدام على التصفية الجسدية.
اما العلمانية فتدعي انها قامت على نسبية الامور وانه لا حقيقة مطلقة عند احد، ولا يستطيع احد في ظل العلمانية ان يدعي ذلك وأنها بالتالي تتيح مجال اكبر واوسع للحريات الفكرية والثقافية وتمنع الحجر على الافكار وتمنع الاكراه على الفكر والعقيدة، لذلك يزدهر التنوير والابداع في ظل العلمانية بينما نجد ان الابداع والتطور يكونان اول ضحايا الاصولية التي تستمد طاقتها من العنف الكامن في الثقافة وثوابت الماضي.
للأصولية اشكال كثيرة وليس بالضرورة ان تكون اصولية دينية فقط مع ان الغالب في واقع الحياة غلبة الاصولية الدينية على باقي الاصوليات، فنجد الاصولية الإسلامية والمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية. ولعل الاصولية الاسلامية التي جنحت نحو العنف والقتل هي الان الاكثر حضورا وتأثيرا في العالم لأنها انتقلت من الاقصاء الفكري الى الاقصاء الجسدي والذي وصل الى قتل المخالفين والدعوة الى استباحة طوائف وفئات غير كتابية كطائفة الأزيديين في العراق والإسماعيليين في سوريا، و يتسيد هذا المشهد في العالم الاسلامي الحركة السلفية الجهادية كالقاعدة وداعش والنصرة وحركات أخرى تدور في فلكها وتتفاوت درجات انخراطها في التطرف والتعصب.
ومن اهم مميزات هذه الحركات الأصولية هي محاربتها للعقل والابداع. فالسلفية تغلب النقل والنص على العقل بل تحرم اعمال العقل في النص ولعل قول ابن تيمية ان التأويل بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار خير دليل على ذلك ، والتأويل هو اعمال العقل بالنص لمعرفة مقاصده وغاياته ، ونجد عند بعض الجماعات الإسلامية ايضا قاعدة السمع والطاعة، فقد انزلوا العقل بهذا المبدأ الى منزلة الحواس فاصبح السمع بديلا عن التدبر وطاعة المرشد اولى من اتباع الحق ولو تبين له ذلك.
دأب الأصوليين على شن حرب شعواء على الدولة المدنية ثم تراجعوا قليلا بعد الورقة النقاشية الملكية السادسة وبقيت الحرب على العلمانية التي تدعو الى الالحاد وتقوم بإقصاء الدين وهذا امر غير صحيح ودليل ذلك أنهم يحجون الى تركيا أردوغان.
خلاصة القول أن العلمانية لا تختلف كثيرا عن الدولة المدنية، فهي لا تلغي ولا تقرر مواطنية الشخص بناء على عقيدته ، بل تعطيه المساحة اللازمة ليقرر هو بنفسه وهذا باعتقادي من مقاصد الدين على أساس أن لا إكراه في الدين. كما أنها لا تحجر على الفكر ولا تمنع حرية الراي وهذا بالضرورة سيثري الفكر الاسلامي ويجدد الخطاب الديني والذي تقريبا توقف عند القرن الثالث عشر والذي مازال يخيم على حياتنا ، واذا طال هذا الليل ولم ينجلي عن صبح ينيره تجديد الخطاب الديني والتخلص مما علق به ، وترشيده واحترام العقل ، فأن عصر ابن تيميه سيزداد ألقا وألفة.