الجمهور "عايز" كده
عندما سمعت هذه العبارة لأول مرة أثارت فضولي واستوقفتني كثيرا، فقد قالها صاحبها على ما أذكر دفاعا عن الانحطاط الذي أصاب الأغنية العربية التي كانت قد وصلت إلى قمة التميز في زمن عمالقة الكلمة واللحن والأداء. فكيف لجمهور تعود على سماع قصائد تنصهر في عذوبة اللحن والأداء أن يرضي بسماع أغنية مسلوقة تم فيها تلفيق كلمات سطحية على لحن مبتذل وأداء ركيك، بحيث تشعر بأن مشروع الأغنية كله لم يتجاوز تنفيذه ساعة من زمن هؤلاء الذين أساؤوا لذائقة الجماهير ودافعوا عن أنفسهم بأنهم يلبون رغبة هذه الجماهير ليس إلا.
ولكن قبل أن نصدق هؤلاء أو نتهمهم بالكذب علينا أن نسأل أنفسنا عن مصير هذه الأغنيات الركيكة، وهل لفظتها الجماهير أم أنها أقبلت عليها وساهمت بنشرها ورفعت من أرصدة المؤدين لها المالية والجماهيرية؟ وما هي نسبة الجماهير التي رفضت هذا الابتذال والاستخفاف بعذوبة الكلمات والذائقة الموسيقية؟ كما يجدر بنا السؤال عن مدى صحة الإساءة لمفهوم الموسيقى والشعر لأن هناك نسبة كبيرة من الجمهور لا يمكنها التفريق بين العمل الموسيقي الكبير وبين موسيقى الكترونية يتم تركيبها على معظم الأغنيات لخلق جو عام من الصخب الضروري لتسيير حياة فئة كبيرة من الناس بطريقة معينة؟
تأثير مقولة "الجمهور عايز كده" لم يقتصر فقط على الأغاني بل انسحب على الأفلام والمسلسلات والكتابات الأدبية والمقالات الصحفية والخطابات السياسية والخطب الدينية وغيرها الكثير، فأصبح الشخص الذي يمتلك رؤية مغايرة لما تمتلكه غالبية الجماهير يهاجَم من قبل هذه الجماهير حتى لو كان رأيه هو الصواب ورأي الغالبية العظمى خاطئ، لأن رأي الأغلبية اكتسب شرعية وقوة أكبر لتأثير القوة العددية على الحكم على الأمور، وبذلك بدأ تأثير الآراء المتخصصة والعميقة يضعف على الرأي العام الذي أصبح يتشكل برأي الغالبية حتى لو لم تكن هذه الغالبية مطلعة على الموضوع الذي تبدي رأيها به أو تمتلك أي خبرة تؤهلها لإبداء الرأي أصلا.
في الوقت الحالي أصبحت منصات الفيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي محركا رئيسيا للرأي العام، ولكن الأمر الذي لا بد من الإشارة له هنا هو أن جمهور وسائل التواصل الاجتماعي ليس متخصصا في كثير من القضايا التي يبدي رأيه فيها ويدافع عنه بشراسة، وعلينا تذكر أن طرق التأثير على أكبر نسبة من الجمهور تكون بمخاطبة عاطفته وليس عقله، وعليه فإن ردود فعل الجماهير تكون كبيرة إذا كان الجو العام مشحونا بشحنة وطنية مثلا وجاء أحدهم ليعزف على أوتار هذه الوطنية بطريقة أو بأخرى، وتنطبق ذات القاعدة على الجو الديني والخطاب الديني، أو الجو الاجتماعي الذي يتناول مشكلة اجتماعية يتعاطف معها الجمهور ويأتي أحدهم لاستغلال هذه العاطفة بطريقة عاطفية فيحظى بقبول الجمهور أكثر من شخص آخر ربما قدم وجهة نظر أكثر عقلانية عن ذات المشكلة ولكنها لا تدغدغ عاطفة الجمهور.
إذا كان هذا هو واقع الحال فهل نحن بحاجة لإعادة تقييم تجارب معينة كالتجربة الديمقراطية مثلا والتي تقوم أساسا على رأي الأغلبية بغض النظر عن صحة هذا الرأي أو خطأه، فهو يكتسب شرعيته من تفوقه العددي وليس من قوة إقناعه أو صحته على المدى البعيد. تجربة الانتخابات الأمريكية الأخيرة قد تشكل مثالا واضحا وقريبا على صراع الآراء ومفهوم الأغلبية، فمقابل الأغلبية المؤيدة لمرشح معين هناك مجموعات أخرى تكاد تكون أغلبية أيضا تملك رأيا مناقضا تماما، فكيف تتعامل الديمقراطيات مع ثنائية الرأي الواضحة جدا؟ وهل هذه الديمقراطيات هي دكتاتوريات مقنعة تفرض رأيها بمنطق الديمقراطية؟ وما هو مصير الرأي الذي يمتلكه المتخصصون والمستشارون إذا قوبل بالرفض من رأي غير مستنير و متفوق عدديا فقط؟
الرأي العام أصبح عقيدة يؤمن بها الجمهور ويعتبرها حقا اكتسبه بعد صراع طويل ولن يفرط فيه بسهولة، كما أنه أصبح مؤثرا على السياسات العامة وعلى أداء المؤسسات حتى لو علمت هذه المؤسسات أن هذا الرأي ليس صحيحا فهي ستخشى مخالفته لأنها تعلم بأنها تمس بأمر عقائدي لدى الجمهور وحتى لو كانت على يقين بأن الجمهور نفسه سيدفع سلبا ثمن أدائها هذا بعد فترة وجيزة من الوقت، وهي ستتعامل مع الموقف الآخر حسب ما تمليه عليها قناعات الجمهور أولا بأول. ولكن إلى أين سيوصلها هذا الانقياد في نهاية المطاف؟ وهل فشلها سيكون خيارا يرحمه ذات الجمهور أم أنه سيحاسبها عليه وعلى أدائها الذي افتقد للخبرة والمعرفة والاطلاع؟؟؟
أسئلة كثيرة لا نملك الإجابة الحالية على معظمها ولكن نضعها هنا بين أيديكم علها تستوقفنا قليلا وتحثنا على إجراء بعض المراجعات كأفراد علينا ألا نخوض فيما لا نعرف، أو كمؤسسات علينا أن نعمل بمهنية بعيدا عن إرضاء الرغبات والأهواء.