جديد كيري قديم … وقديمه لم يجلب نفعا ولم يدرأ ضرا
عريب الرنتاوي
31-12-2016 02:46 AM
الأفكار التي جاء بها جون كيري في معرض قراءته لتجربة التعثر على مسار السلام والتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تدور في معظمها حول “ورقة كلينتون” الشهيرة، وما أعقبها من وثائق و”مرجعيات”، جرى التوصل إليها بين الجانبين في مراحل مختلفة بعد ذلك… جديدها قديم، وقديمها لم يجلب نفعاً ولم يدرأ ضراً.
ويمكن إيجاز “ورقة كيري” للحل بما يلي: (1) اعتماد خط 67 أساسا لحل الدولتين، مع تبادل “متعادل” و”متفق عليه” للأراضي (وهذا مبدأ قبله الفلسطينيون وتورطوا فيه) … (2) القدس عاصمة لدولتين مع ضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدس للجميع (ضربة قديمة – جديدة للعاصمة الأبدية الموحدة)… (3) الاعتراف الفلسطيني بـ “يهودية” الدولة مقابل اعتراف إسرائيل بدولة الشعب الفلسطيني ضمن الحدود المشار إليها (شرط إسرائيلي حاسم مرفوض بإجماع الفلسطينيين حتى الآن) … (4) حل قضية اللاجئين بما لا يؤثر على “يهودية” الدولة العبرية، واعتماد معايير كلينتون الشهيرة (الاعتراف بالمعاناة، التوطين، بلد ثالث، التعويض) …. (5) ترتيبات أمنية تكفل حدوداً يمكن الدفاع عن لإسرائيل، ودولة فلسطينية “سيدة” وغير “معسكرة” … (6) إنهاء كافة المطالب بما يؤسس لتطبيع العلاقات وسلام مستدام.
كل ما ورد ذكره، من أفكار، ليست في واقع الحال، سوى إعادة انتاج لركام الأوراق والوثائق التي جرى التوصل إليها أو اقتراحها في العقدين الأخيرين، من دون أن تفضي إلى أي تقدم جدي يذكر، على مسار إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته … وهذه الأفكار جميعها دون استثناء، جرى قبولها بشكل صريح أو مضمر، من قبل القيادة الفلسطينية ومن الحكومات العربية (مبادرة بيروت)، باستثناء البند المتصل بـ “يهودية الدولة”، الذي جددت القيادة الفلسطينية في مرات متعاقبة (آخرها مؤتمر فتح السابع) رفضها لهذا المطلب/الشرط الإسرائيلي، ونجحت في إقناع الدول العربية في دعم هذا الموقف، خلال عدة مناسبات.
كيري في معرض حديثه عن “يهودية الدولة” استند إلى جزئية في القرار 181، تحدثت عن دولة يهودية ودولة فلسطينية، ضارباً عرض الحائط ببقية بنود ذاك القرار، الجائر بامتياز، ومن بينها أنه يعطي الفلسطينيين ما يقرب من ضعف مساحة الأراضي المقترحة اليوم لإقامة دولتهم المستقلة عليها… كيري يلتقط من القرار ما يدعم وجهة النظر الإسرائيلية، ويسقط منه ما يدعم وجهة نظر الفلسطينيين ومصالحهم الوطنية.
ولا ذكر “لحق اللاجئين في العودة” إلى ديارهم، هناك معايير عديدة يوردها الخطاب، تلتف حول “الحق” دون أن تأتي على تظهيره، بل ويذهب زعيم الدبلوماسية الأمريكية إلى اشتراط عدم المساس بـ “يهودية الدولة” كعامل مقرر لأية تسوية لهذا الملف، لكننا هنا لا نريد أن نلقي باللائمة على إدارة أوباما وحدها، إذ ليس بوسعها أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين في هذا المجال، أو عربية أكثر من العرب أنفسهم … الفلسطينيون أظهروا ميلاً جارفاً للمساومة على هذا “الحق”، ومبادرة بيروت العربية، لم تكن أصلاً تتضمن شيئاً بخصوص اللاجئين، وعندما طرح الأمر في القمة، جرى الحديث عن حل “عادل” و”متفق عليه”، بما يُبقي حق النقض “الفيتو” في يد إسرائيل، لقبول أو رفض أية مقترحات بهذا الصدد.
لكن مع ذلك، ينطوي حديث كيري على أهمية سياسية وأخلاقية، لا يجوز التقليل من شأنها، حتى وإن جاء الخطاب في ربع الساعة الأخير لإدارة أوباما، ومن باب رفع العتب أو إراحة الضمير، أو بهدف “وضع قيود” في أيدي الإدارة الأمريكية الجديدة بزعامة دونالد ترامب … كيري وصف حكومة الاحتلال بأنها “الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل”، ووجه انتقادات لاذعة للاستيطان، بوصفة أداة هدم لحل الدولتين ولتطلعات الشعب الفلسطيني وحقوقه في أرضه … كيري وضع إسرائيل أمام خيارين إما المضي في هذه السياسة والمقامرة بانتفاء صفة “اليهودية” عن الدولة، أو الانحياز لخيار “ديمقراطية الدولة”، والكف عن سياسات التوسع الاستيطان وانهاء الاحتلال … إسرائيل لا يمكن أن تكون “يهودية” و”ديمقراطية” في الوقت ذاته، طالما لم يتمكن الشعب الفلسطيني من بناء دولة مستقلة… فأعداد الفلسطينيين واليهود كما قال، تكاد تتقارب في جغرافيا “فلسطين التاريخية”.
على أية حال، لم ينس كيري أن يذكر نتنياهو، بان إدارة رئيسه باراك أوباما، كانت الأكثر سخاء في دعمها عسكرياً واقتصادياً، التزاماً بأحد “مبادئ” السياسة الخارجية الأمريكية الثابتة: الحفاظ على تفوق إسرائيل، وثمة 40 مليار دولار من أموال دافع الضرائب الأمريكي بانتظارها في السنوات العشر المقبلة، تعادل ما يقرب من نصف إجمالي المساعدات الأمريكية الخارجية، الموجهة لكل من يحتاجها من أصدقاء أمريكا في القارات الخمس.
وكيري لم يجد غضاضة في “مجاراة” إسرائيل و”مجاملتها” في توجيه انتقادات حادة، لما أسماه “التحريض” الفلسطيني، ولا ندري عن أي تحريض يتحدث، وهل الدعوة لإنهاء الاحتلال ورفع كلفته والمقاومة الشعبية السلمية ومقاطعة بضائع المستوطنات، هي تحريض، وبأي معنى وبالاستناد إلى أية مرجعية حقوقية وأممية؟
سيندرج خطاب جون كيري، في أقسام “المحفوظات” في وزارات خارجية المنطقة، ويمكن العودة إلى بعض بنوده لاستلال ما يمكن أن يفيد في مواجهة الفاشية “القومية والدينية” التي تجتاح إسرائيل، وفي تقديم رواية “متوازنة” نسبياً عن أسباب انهيار ما عرف بعملية السلام، لكن أفكار كيري/ أوباما، لن تجد طريقها إلى الترجمة، لاسيما وأنها صدرت على مسافة أيام قلائل، من تسلم ترامب لمقاليد السلطة في واشنطن، وهو الذي طالب إسرائيل، بالصمود والثبات لأيام قليلة فقط، بانتظار ما سيأتي به مع إدارته الجديدة، التي قد يقال فيها أيضاً، إنها الأكثر يمينية وتطرفاً (بل وجنوناً) في تاريخ الولايات المتحدة، اليس كذلك؟!
الدستور