الغطرسة مفردة دخيلة على اللغة العربية، لكنها تعبر بدقة عن ممارسات كثيرين منا؛ في البيت والمدرسة والشارع، وميادين العمل بمختلف مستوياتها، برغم أن الناس يستخدمون المفهوم للإشارة إلى العديد من الأنماط والممارسات السلوكية التي يعمل من خلالها البعض على إذلال وتحقير آخرين، من منطلق أنه الأذكى والأقدر والأفضل وصاحب السلطة التي ينبغي أن يخضع لها الآخرون.
تعود أصول كلمة "غطرسة" إلى اللغة اللاتينية، إذ استخدم لفظ "Hypris" للتعبير عن القسوة والفظاظة الناجمتين عن الكبر والتعالي والغرور، المقرونة بتعمد إلحاق الذل والخزي والإهانة والتجريد من الكرامة والشرف واحترام الذات، وكل المعاني الإنسانية التي يستكمل الأفراد بها إنسانيتهم. ويمارسها المتغطرس على من يقعون تحت سلطانه أو رعايته، من خلال إجبارهم على القيام بأفعال تحط من كرامتهم، وتظهر فقدانهم للرأي والإرادة والتعبير، وتلذذ واستمتاع أصحاب السلطة بهذه الممارسات واعتبارها طقوسا تدلل على نفوذهم وجبروتهم وقدرتهم.
لقرون طويلة، ظلت الغطرسة ممارسة يلجأ إليها المستبدون والمستعمرون والطواغيت، ويتوقعها الخاسرون والفقراء والمستضعفون والأسرى وقادة الجيوش المنكسرة، إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية، وعمل من صاغوا فلسفة الأمم المتحدة وميثاقها واتفاقياتها وعهودها، من الراغبين في إزالة مظاهر الظلم والتعدي والعدوان كافة، على نزع فتيل الصراعات المحتملة. فالعدل والحرية والمساواة والحق في الكرامة المتأصلة في الطبيعة الإنسانية، والسابقة على كل صور الاجتماع الإنساني، هي هدف أخذت الشعوب والدول تتسابق إلى تحقيقه وصيانته من خلال التشريعات والنظم والبرامج، برعاية أممية وجهتها المعاهدات والاتفاقيات والعهود.
لكن الغطرسة التي تراجعت منذ عقود في المجتمعات التي آمنت بالديمقراطية والتزمت حقوق الإنسان تحت سيادة القانون، ما تزال تطل برأسها في ممارسات البعض، وهو يتجاهل إرادة الشعوب ومبادئ العدل والحرية والمساواة، ويدير ظهوره لإرادة الناس وتطلعاتهم تحت مبررات يصعب فهمها.
من الصعب على أي مجتمع أن يحافظ على قيمه وأخلاقه ومثله، ويتخذ أي خطوة باتجاه المستقبل، إذا لم يشعر الأفراد بكرامتهم ووجودهم واحترام إرادتهم. فالغطرسة أشد أعداء التقدم، وأكثر العوامل المساعدة على تنامي روح التآكل والانسحاب واللامسؤولية. إضافة إلى أنها تولّد الدوافع والمبررات للجريمة والانحراف والتخريب.
بعض الأشخاص الذين يقومون بأدوار تمثيلية وخدمية من أجل رفاه وسعادة المواطن، يتناسون أن خدمة ورضا الناس هي مفردات ومعايير القيام بالواجب خير قيام، وهي الترجمة الفعلية لشعار "فلنبن هذا البلد.. ولنخدم هذه الأمة"، وهي المبرر الأهم لوجودهم.
محاولات البعض، بوعي أو بلا وعي، البحث عن السلطة التي يوفرها الموقع، والتعسف في استخدامها، هو ضرب من ضروب الغطرسة الناعمة التي تمارس على أشخاص يقبلون على نيل حقوقهم في الخدمة والرعاية والمشاركة والحماية من خلال المنافذ التي جرى تحديدها لذلك. وتأخر تلقي هذه الخدمات أو نيل الحقوق، لأي سبب من الأسباب، يؤثر سلبا على علاقة الدولة بمواطنيها.
من غير المعقول أن تتعطل خدمات مؤسسة بسبب إجازة موظف أو انشغاله، أو تعكر مزاج مدير. ومن غير المفهوم أن تبقى معاملة تدور بين مكاتب دائرة ما لعامين أو أكثر، ويتم طلب تجديد بعض مرفقاتها، ليس لسبب واضح، سوى تأخر عرضها على اللجان، والذي لم يحدث لأسباب غير معروفة. واعتراض البعض على نوعية الخدمة أو أحكام الموظفين وقراراتهم، قد يكون سببا كافيا لمضاعفة الوقت اللازم لإنجازها وتأخيرها وتعقيدها.
عندما لا يشعر الناس بعمق وصلابة إيمان الآخرين بأنهم أصحاب حق، فمن السهل أن تتخذ الغطرسة أشكالا وصيغا وممارسات يصعب حصرها أو التنبؤ بها.
الغد