غطى أذنيه بيديه الصغيرتين الباردتين، أماه لا أحب صوت الريح إنها تخيفني، لماذا نحن هنا ولماذا تبكي أختي الصغيرة بلا توقف؟ لماذا لا نعود لبيتنا؟ لقد نسيت كرتي هناك تحت الياسمينة قرب نافورة المياه، هيا نعود يا أمي أريد أن ألعب مع رفاقي في حارتنا الصغيرة، كما أنني تأخرت كثيرا عن الذهاب للمدرسة، ستغضب مني معلمتي الجميلة فأنا لم أنه واجب العربي ولا الحساب كما أني نسيت قصيدة بلاد العرب أوطاني. ماذا سأقول لمعلمتي إذا سألتني لماذا تأخرت؟ لماذا تأخرنا يا أمي ألم يتوقفوا عن القتال بعد؟ أخبريهم بأني جائع ومتعب وبأن أختي خائفة كثيرا وبأن أبي مات. قولي لهم بأن جدراننا صارت قماش خيمة سقفها منخفض ويسرب الريح الباردة ومياه الأمطار. لوث الوحل ثيابي وبقايا حذائي، ولم أعد أرسم يا أمي منذ نسيت أوراقي وألواني ومنذ غابت عن عينيّ صور الورود والرياحين والأشجار التي كانت تزهر في ربيعنا القديم قبل أن يأتي ربيعكم العربي الذي لا يشبه الربيع.
لا تخف يا صغيري، غدا سنعود لبيتنا فقد خبأت المفتاح أنا أيضا كما خبأته قبلي أمهات أخريات. ولكن عليهم أولا أن يقتلوا العصابة القوية، وها هم قد جاؤا من كل أنحاء العالم بطائراتهم وقنابلهم وبوارجهم وحاملات طائراتهم وتحالفاتهم الدولية، جاؤا بكل عدتهم وعتادهم لينقذونا ويساعدونا، إصبر قليلا فهم يتعبون من أجلنا ليقدموا لنا الحرية والديمقراطية كما قدموها لإخوة لنا قبل فترة قصيرة.
ومن جاء بهذه العصابة لتدمر حياتنا؟ سمعتهم يقولون إنها وحش كبير جدا يا أمي، لونه أسود وله أعين كثيرة. وقالوا إن له أذرعا طويلة وممتدة كلما قطعت واحدة نمت له أخريات بدلا منها، وهي تحب اقتلاع الجذور لتزرعها في أماكن أخرى، حتى لو كانت هذه الجذور لحضارات خلت وشكلت إرث التاريخ فوق أقدم بقاع شهدت ميلاد الحياة وبداية الإنسانية. وادّعوا أن لا علاقة لهم بما يحدث بل هي فقط هذه الأذرع القوية التي تدمر البيوت وتشرد البشر وتقتلع الحجر والشجر. وكأن لسان حالهم يقول إن هذا الوحش يا أمي يحتاج فقط لأن ينفخ الريح فتنقلب الطائرات والبوارج والسفن لذلك هم لا يقدرون عليه، فهو يزلزل الأرض لو ضربها بقدمه، وإلا لما اجتمع العالم لقتاله، ولما استمرت الحرب عليه كل هذا الوقت. ربما سنموت كلنا ثمنا لموت هذا الوحش، فها هم يضربون في كل مكان، ويبررون تجربة جميع أنواع الأسلحة علينا، المحرمة وغير المحرمة دوليا، فهم يبحثون عن السلاح الأقدر على قتله ولا يقصدون قتلنا أبدا. علينا أن نساعدهم بالمال وبالعيال فمن المخجل أن نتركهم يقاتلون وحشنا دون مساعدة منا. كم هو قوي هذا الوحش يا أمي خبئيني بين ذراعيك حتى لا يراني!
هو ليس وحشا يا حبيبي فلا تخف، هو فقط عصابة صغيرة وسينتهون منها قريبا جدا وستعود الحياة إلى سابق عهدها، فالأمر بسيط جدا. نم أنت الآن فقد انتصف الليل ولا تشغل رأسك الصغيرة بقصص الكبار، هم يعرفون ماذا يفعلون علينا أن ننتظر فقط فالأمر لا يزيد عن كونه مجرد مسألة وقت.
لست أنا من يقول يا أمي، بل هم يقولون ويفعلون بنا ما يشاؤون، ولكنني سأكبر غدا وسأواجه كل وحوش الأرض التي سلبت مني طفولتي وهدمت مدرستي وأرعبت أختي الصغيرة وأرهقت عينيك يا أمي وهي تذرف الدموع، غدا سأواجه قاتل أبي وعمي. غدا سأقف شامخا كالحقيقة أمام كل خدام آلهة الحروب الذين قدموا طفولتنا قرابين لآلهتم والذين نسوا أن الطفل سيكبر وأنه سيجد كل إجابات الأسئلة التي شغلت رأسه يوما.