أسبوعية ''المجد'' تتوقف والريماوي يكتب لـ عمون
فهد الريماوي
26-12-2016 11:49 AM
عمون - في سياق أزمة الصحافة الورقية عامة، والأسبوعية منها بشكل خاص، يؤسف ''المجد'' ان تعلن التوقف عن الصدور عند نهاية العام الحالي.
ويأتي هذا التوقف الإجباري والاضطراري لأسباب مالية ضاغطة، جرّاء تراجع الوضع الاقتصادي الأردني من جهة، ومفاعيل ''مدونة السلوك الإعلامي'' التي حرمت ''المجد'' من اشتراكات الدوائر الحكومية، وإعلانات المؤسسات العامة، من جهة أخرى.
ورغم علم الحكومة ومجلس النواب ونقابة الصحفيين بمحنة الصحافة الورقية القاسية، منذ بضع سنوات، إلا أن أياً من هذه الأطراف لم تحرك ساكناً أو تبادر بمد يد العون ''للسلطة الرابعة'' كي تجتاز محنتها، وتعاود الوقوف على قدميها.
يعزّعلى هذه الصحيفة القومية والعروبية الجادة أن تطفئ انوارها، وتغادر دورها، في وقت أحوج ما تكون أمتّنا خلاله إلى المنابر المبدئية والعقلانية التي تتصدى بشجاعة وشرف للجماعات التكفيرية الظلامية، وللمحافل التغريبية الاستسلامية، على حد سواء.
وبالمناسبة كتب الزميل الإعلامي الكبير فهد الريماوي رئيس تحرير المجد يقول :
''المجد'' تلوح لجمهورها بمناديل الوداع..
بغير دموع ولا مراسم تشييع ولا مناديل وداع، ترحل ''المجد'' هذا اليوم الى غياهب الصمت.. تجمع حروفها، وتلملم اوراقها، وتحزم حقيبة عمرها ودورها، ثم تسافر على جناح الاسى والاسف الى دارة المنتهى، وشاطئ الغياب والاحتجاب، ''ولحد'' الرجوع الاخير.
لقد حُم القضاء وانقطع الرجاء ووقع الفراق الابدي.. فها هي ''المجد'' تقرأ في سورة ''الغربة''، وتتجلد في مواجهة الخطب الجلل، وتغالب دمعة قبل ان تنسكب، وتمخر عباب رحلة بلا عودة، وذهاب بغيراياب، وانزواء ليس بعده من لقاء.
ما عاد في اليد حيلة، ولا في الوسع اي تدبير.. فقد سدت في وجه هذا المنبر القومي كل السبل، وانفض من حوله جل الاصدقاء، واجتمع عليه لفيف كثيف من الخصوم والاعداء، ومال عنه رهط من القراء المتعجلين الذين اغوتهم واستهوتهم صرعة التغريدة الزغرودة، وصحافة الوجبات السريعة، وثقافة الحشائش السطحية النابتة على صفحات التويتر والفيسبوك والانستغرام والواتس اب.. الخ.
يا وحدنا.. صرخة تائهة بلا صدى وسط هذه الغابة العربية الموحشة والمتوحشة، والضاربة في فيافي الفتنة، والشاربة من نهر الجنون، والمتهاوية دولة بعد اخرى .. فلم يعد فيها قيمة للعقل، ولا اهمية للخلق، ولا مكانة للضمير، ولا محل من الاعراب للخطاب الوطني والقومي، ولا متسع للكلمة الحرة والقلم الناقد والصحافة الامينة والرصينة التي طالما جرى اعتبارها سلطة رابعة، وشريكاً رئيسياً في قيادة الرأي العام.
الصحافة - في مفهومنا الكلاسيكي- روح ابداعية وطليعية لا تسكن الا الورق، ولا تنهل الا الحبر، ولا تعانق الا القلم، ولا تولد الا من رحم المطبعة، ولا تفتح للقارئ صفحاتها وتمنح اخبارها واسرارها، الا في حضرة القهوة المنعشة، ورفقة الصباح الباسم.. اما الاذاعات والفضائيات والمواقع الالكترونية واخواتها، فليست صحافة حتى لو شُبه لها، بل هي جنس آخر من اجناس دولة الاعلام، وفصيل مختلف من فصائلها.. ومن هنا جاء اصرارنا على استمرار صدور ''المجد'' في حلتها الورقية الملونة الباهظة التكاليف، حتى الرمق الاخير واليوم الاخير والدينار الاخير، رغم ان لديها موقعها الالكتروني المعروف منذ جملة اعوام.
وليست الصحافة محض اوراق مطبوعة، او نشرات دورية، او اصدارات مسطرة ومصورة، بل هي معنى باكثر مما هي مبنى، ومضمون باكثر مما هي كيان، ورسالة باكثر مما هي مهنة، ومسؤولية باكثر مما هي وجاهة ومنفعة ونجومية.. ولعل من البديهي والمعروف منذ قديم الزمان، ان للصحافة في نفوس اهلها الاصلاء، وليس الدخلاء، مكانة عظيمة تقترب من القداسة، ومودة غامرة تبلغ حد العشق، وانتماء مخلصاً ومتيناً يرقى الى مستوى التعصب الشوفيني.. وقد كان استاذ الاجيال الصحفية العربية، المرحوم محمد حسنين هيكل يباهي بانه ''جورنالجي''، ويفاخر بالانتماء الى قبيلة الصحافة، ويجاهر برفض كل ما عداها من القبائل والقوافل والمناصب والمراتب.
بدافع الفطرة الادبية والموهبة الكتابية، والانبهار بالكلمة المطبوعة المتعربشة على اكتاف الجرائد والمجلات، وقع اختياري- بل اصراري- على دراسة الصحافة بكلية آداب جامعة القاهرة، بعدما فتح جمال عبدالناصر ابواب ''مجانية التعليم''في مصر امام سائر ابناء الوطن العربي.. ورغم تخرجي في الجامعة عام 1965، الا انني لم اتخرج، بالمقابل، من مدرسة الصحافة المصرية النجيبة التي كانت يومذاك رائدة وقائدة لمسارات الاعلام العربي والآسيوي والافريقي كافة، فيما كان اقطابها واعلامها وفرسانها محل اهتمام واحترام المحافل والدوائر العالمية المعنية.
من وحي تلك المدرسة الصحفية الطليعية، ومرحلتها النهضوية الساطعة، وروحها الناصرية العنفوانية، تطوعنا لاصدار ''المجد'' في ربيع عام 1994، بمجرد ان لاحت الفرصة المواتية، بعدما تحطمت قيود واصفاد الحقبة العرفية التي صفّدت وصادرت الحياة السياسية الأردنية لما يناهز ثلث قرن، حيث امكن لنا تحويل الحلم القديم الى واقع رائع، واحياء المستطاع من تراث الصحافة الاصيلة، وتشييد صرح اعلامي قليل الامكانات، ولكنه شديد البأس في منازلة ومغالبة مرحلة كاملة من السقوط العربي على ايدي فقهاء الظلام وسفهاء الاستسلام على حد سواء.
طوال عمرها الذي نيّف عن الاثنين والعشرين عاماً، ظلت ''المجد'' صحيفة مبدأ وموقف والتزام، باكثر مما هي منصة اخبار ومقالات وتحقيقات.. فهي صاحبة رسالة قومية، وحاملة مسؤولية وطنية، وراعية خط تقدمي وتنويري، وداعية نضال ونزال وكفاح مسلح ضد اسرائيل، وحليفة وثيقة لاقطاب الممانعة والمقاومة في سوريا ولبنان وفلسطين، وقد دفعت لقاء ذلك اثماناً باهظة معروفة للكافة، وتعرضت لسلسلة طويلة من العذابات والملاحقات والعقوبات والاشاعات المختلفة الانواع والمستويات، ليس على ايدي الدوائر الامنية والحكومية فحسب، بل الجماعات المتصهينة والمتأخونة والمتخلجنة ايضاً، حتى اوشك عدد المتنبهين لقوة حضور ''المجد'' والمتابعين لها من موقع التربص والعداء يقارب عدد القراء المخلصين والاصدقاء الحميمين.
وبقدر حرص ''المجد'' على صلابة موقفها، ومبدئية نهجها، وصوابية رؤيتها وبوصلتها، فقد حرصت ايضاً اشد الحرص (خلافاً لصحافة هذا الزمان التي تتعثر في اغلاطها النحوية والاملائية) على سلامة لغتها، وسلاسة عباراتها، وبلاغة مقالاتها ومفرداتها.. فلطالما صاغت الادبيات القومية بحروف ناصرية، وعزفت الاناشيد الوطنية باوتار عروبية- لا اقليمية- واختارت للجملة المفيدة حلة شفافة انيقة، واستضافت كوكبة من فرسان النصوص المتميزة، ودأبت على المزاوجة بين عمق العقيدة الفكرية وعذوبة القصيدة الشعرية، رغم ان الواقع العربي المضرج بالدم والهم والغم، لا يسر البال ولا ينعش الخاطر ولا يشجع القريحة على التجلي والابداع.
وعليه، فمن المؤسف حقاً وصدقاً ان تنطفئ شعلة ''المجد'' وامثالها من المنائر والمنابر الصحفية العروبية الهوى والمحتوى، وان تختفي الاقلام المرهفة والمثقفة والبعيدة النظر، وان يخلو الميدان للصنائع والاتباع ومحاسيب المراكز التكفيرية والرجعية والطغيانية والسلطانية القارونية من جهة.. او المحافل اليهودية والامريكية والماسونية والاباحية الباذخة التمويل من جهة اخرى.
صحيح - على وجه الاجمال- ان الصحافة المطبوعة تعاني حالياً جملة مصاعب مالية ومتاعب مهنية في سائر انحاء العالم، غير ان التمحيص الدقيق والمتأني في هذا الخصوص، يثبت ان الصحف المستقلة والموضوعية والمعتمدة على مواردها الذاتية، هي الرازحة وحدها تحت عبء الاحتياج والمعاناة وضيق ذات اليد.. اما الصحافة التابعة والخانعة والممولة من دول الخليج النفطية بشقيها العربي والايراني(بدرجة اقل)، فلا خوف عليها ولا من يحزنون، ولا خلاف بينها حول الموقف من الهوية العروبية والوعي القومي والمشروع الوحدوي النهضوي الذي تناهضه ايران - ومثلها تركيا- لدواعي الهيمنة السياسية، بقدر ما تحاربه السعودية وتوابعها لحساب الجاهلية الوهابية.
لو كانت نقابة الصحفيين حاضرة ومؤثرة وقادرة على النهوض بكامل واجباتها، لما غابت عن محنة الصحافة الورقية، ووقفت مكتوفة الايدي وعاجزة بلا حول ولا طول.. ولو كان مجلس النواب جديراً بصفته التمثيلية واهلاً لمسؤوليات السلطة التشريعية، لما اصم اذنيه وتجاهل استنجاد الصحفيين به، العام الماضي، لحمل الحكومة على معالجة ازمة ''السلطة الرابعة'' ولو ضمن ادنى الحدود، وبما يشابه دعم الاحزاب السياسية.
اما الحكومات المتعاقبة، وآخرها حكومة الملقي الحالية، فلا امل فيها ولا نفع للصحافة منها.. فهي في افضل الاحوال محايدة ومتباعدة وتاركة للصحافة ان تقلع شوكها بيديها، اما في اغلب الاوقات والمنعطفات، فهي قمعية وعرفية وشديدة البأس على الصحافة عموماً، والاسبوعية المعارضة بشكل خاص، حيث سبق لحكومة عبدالسلام المجالي ان فرضت على الصحافة الاسبوعية عام 1997 رفع رأسمالها الى ارقام شاهقة مما ادى الى اختفاء عدد من هذه الصحف، في حين فرضت حكومة معروف البخيت على هذه الصحافة عام 2007 ضريبة مبيعات انتقامية وتعسفية قاتلة ومن خارج القانون، ولكن الحكومة التي خلفتها برئاسة نادر الذهبي سرعان ما شطبت هذا القرار المجحف والمتعسف.
اما الضربة الساحقة الماحقة، فقد سددتها للصحافة المعارضة والوطنية، حكومة سمير الرفاعي حين اقترفت عام2010 اثم ''مدونة السلوك الاعلامي'' التي قصمت ظهورنا، ونسفت فرصة استمرارنا، ولجمت الدورة الدموية في عروقنا، وجففت جل مواردنا من اعلانات واشتراكات الدوائر الرسمية والمؤسسات العامة، وقذفت بنا الى مهاوي العد العكسي الذي افضى بصحافتنا الى الافلاس.. وقد كانت لي مع هذا الرجل جولة عتاب ساخنة، في حضور والده الرئيس زيد الرفاعي، والمحامي المرحوم حسين مجلي، اعترف في نهايتها انه لم يكن يتوقع ان تؤدي هذه المدونة الى كل هذه الخسائر والاضرار.
وما دمنا بصدد الحديث عن الموارد والجوانب المالية، فلا بأس في هذا المقام الوداعي المرهف، من القاء الضوء على استراتيجية ''المجد'' التمويلية وتجلياتها الواقعية وآلياتها التنفيذية التي طالما ارهقتنا, واستنزفت معظم جهودنا وربما ماء وجوهنا.. ذلك لاننا كنا قد طرحنا لغرض اصدار ''المجد'' حرة ومبدئية، شعار : ''قليل من كثير''، وهو ما يعني استدراج ما تيسر، ومهما كان قليلاً ومحدوداً، من التبرعات والاعلانات والاشتراكات التشجيعية، من قبل مروحة واسعة من الاصدقاء والرفاق والانصار الوطنيين والقوميين والاسلاميين في الاردن وفلسطين وسوريا ولبنان - والناصريين في مصر واليمن- وذلك كي لا نثقل على طرف بعينه، وايضاً كي لا نقع تحت جناح جهة بذاتها، فليس يليق بصحيفة ترفع راية عبدالناصر، الطاعن في التقشف والنزاهة وطهارةاليد، ان تبتذل حروفها بالتكسب والارتزاق.
وامتثالاً لاحكام قانون المطبوعات والنشر، والتماساً لتبرئة الذمة امام التاريخ الصحفي، فقد دأبت ''المجد'' منذ السنة الاولى لصدورها حتى الوقت الراهن، على تزويد دائرة المطبوعات، ثم وريثتها هيئة الاعلام، بنسخ مدققة حسب الاصول من موازناتها السنوية، وبنسخ مماثلة الى دائرة الضريبة العامة، ودفع ما يتحقق عليها من ضرائب، ليس وهي رابحة فقط، بل وهي خاسرة تعتاش من جيوبنا ايضاً.. وللتحقق من صدق اقوالنا، يستطيع اي باحث متخصص او حاقد متربص مراجعة اي من هاتين الدائرتين الرسميتين.
ولسوف تبقى آيات الشكر والامتنان والعرفان واجبة علينا الى عموم احبائنا واخواننا واصدقائنا، الاحياء منهم والراحلين، الذين وقفوا جميعاً مع ''المجد'' بشرف وشجاعة واخلاص، متطوعين لوجه العروبة وفلسطين، ومتفضلين بغير قيد ولا شرط، ومتبرعين بالمال والمقال والمعلومة والاعلان والاشتراك السنوي والدفاع في المحاكم.. وكم كان بودنا تعطير سطور هذه الكلمة الختامية باريج اسمائهم الكريمة، لولا رغباتهم الصارمة والحازمة بخلاف ذلك.
اما فرسان كتيبة "المجد" الذين اسهموا بجهد صادق ومثابرة دائبة, لاخراجها من العدم الى الوجود, ومن العتم الى الشروق, فلهم كل التحية والوفاء والاحترام, سواء من غادر موقعه مبكراً, او من ظل صامداً حتى الرمق الاخير.
يقولون ان البجعة تطلق أعذب تغريداتها وانشوداتها عندما تحس بدنو اجلها، ربما لانها تحب مغادرة الحياة باسمة لا باكية، ومفعمة بالسكينة والرضا لا بالفزع والجزع.. وليس افضل ''للمجد'' قبل ان تلفظ انفاسها الاخيرة، من استحضار مقولة الثائر الحلبي والرائد القومي العربي، عبدالرحمن الكواكبي التي ما زالت تدوي في اروقة الزمان منذ نيف ومئة سنة : ''هي كلمة حق وصرخة في واد، ان ذهبت اليوم مع الريح فلسوف تذهب غداً بالاوتاد''.