صدر قرار مجلس التعليم العالي برفع الحد الأدنى للقبول في دراسة علوم الشريعة الإسلامية إلى (80%)، وجاء الإعلان عن القرار في خضم انشغال الرأي العام الأردني في أحداث قلعة الكرك وما بعدها، ولم يحظ القرار بدراسة مستفيضة من هيئات المجتمع المختلفة، كما أنه لم يأخذ حيزاً مناسباً لدى وسائل الإعلام المختلفة، بل لم يتم ذكره في وسائل التواصل الاجتماعي إلّا نادراً.
ربما تعمد القائمون على اتخاذ هذا القرار اختيار هذا التوقيت لسببين، أحدهما يتعلق بانشغال الرأي العام بما هو أكثر أهمية، والسبب الآخر أن رفع معدل القبول جاء في سياق مواجهة موجة العنف والتطرف والإرهاب التي تجتاح المنطقة ووصل إلى بعض الشباب الأردني، فربما إثارة العواطف وتأجيجها يؤدي إلى تقبل هذا القرار.
وهنا يجدر بنا الوقوف على خلفية اتخاذ هذا القرار ومبرراته، ولعل المبرر الأقوى والأكثر ظهوراً على السطح يأتي من باب رفع مستوى الدارسين لعلوم الشريعة، بحيث يبقى هذا الحقل مقتصراً على الأذكياء وأصحاب التحصيل الدراسي العالي من أجل تحقيق ضمان سلامة هذا العلم من بعض العاجزين عن فهم الدين ومقاصده وغاياته ومبادئه وأصوله لأن المشكلة بحسب أصحاب هذا الرأي تأتي من خلال بعض الأفهام المغلوطة للدين والتي أدت إلى إشاعتها وتدريسها للأجيال، مما أسهم في رفع منسوب التطرف لدى العامة.
للوهلة الأولى يبدو الكلام مقبولاً ومعقولاً ولكن عند التدقيق وانعام النظر تبدو ملامح الخطورة في آثار تطبيق القرار فيما لو اتخذ طريقه نحو التنفيذ، وإذا كان توصيف مبررات القرار صحيحاً لرفع معدل قبول الشريعة، فهذا يدل دلالةً واضحة على أن معالجة الإرهاب والتطرف تجري في سياق سطحي انطباعي غير مدروس، ولا تقوم على دراسات علمية صحيحة، ولا تنبثق من استراتيجية محددة، ولا تعتمد على رؤية علمية واضحة وموحدة، وإنما تأتي في سياق انفعالي نزق مغرق في تبسيط الأمور وتسطيحها، بل إنها جاءت مغلفة بأقوال بعض الفئات المعروفة التي جاءت تستثمر في الظرف القائم، من أجل تسديد بعض الحسابات السياسية المستندة إلى رغبات بعض العلمانيين المتطرفين المنفصمين عن واقعهم وعن شعبهم وأمتهم انفصاماً مروّعاً.
في البدء وقبل الشروع في المعالجة العلمية واتخاذ القرارات الأكاديمية؛ ينبغي الذهاب إلى إجراء الدراسات العلمية الموثقة من جهات عديدة وأطراف مختلفة تتسم بالعلمية والموضوعية والأمانة والمنهجية العلمية الدقيقة على الشرائح المجتمعية المختلفة من أجل الوقوف على أسباب الظاهرة وعوامل نشأتها وازدهارها وتطورها بطريقة مرتبة وسليمة بحسب قوتها وأثرها، وكذلك ضرورة دراسة أفراد الحالة نفسها، حيث يوجد لدينا الآن (400) شاب أو أكثر يمضون فترة التوقيف والمحكوميات المتفاوتة في السجون الأردنية، فلا بد من معرفة اختصاصاتهم ودراستهم وحقولهم العلمية ومهنهم وسيرتهم العملية، وبعد ذلك يجب الذهاب إلى إقامة سلسلة مؤتمرات علمية بحثية تعتمد إعداد الأوراق الرصينة بعيداً عن منطق الفصاحة والبلاغة اللفظية التي يتمتع بها تجار الانقسام المجتمعي وبعيداً عن الباحثين عن أدوات الدعم المالي الموّجه مسبقاً.
سوف يتفاجأ الدارسون والباحثون وأعضاء مجلس التعليم العالي أن الأغلبية الساحقة من الذين يحملون الفكر المتطرف لا يحملون شهادات شرعية، ولا ينتمون إلى حقل العلوم الشرعية، وسوف تكون المفاجأة أكبر عندما يجدون أن هنالك مهندسين وأطباء وأصحاب حقول علمية مختلفة، وأصحاب الشهادات الشرعية سوف يكونون أعداداً قليلة ونادرة، لأن كثيراً من المتطرفين لا يحملون شهادات علمية أصلاً، وكثير منهم خريجو سجون ومعتقلات، وأصحاب ماضٍ جرمي حافل بالمخالفات التي لا علاقة لها بالدين والفكر لا من قريب ولا من بعيد.
إن الذهاب إلى حقل التدين من بعض شرائح المتطرفين يحتاج إلى دراسة نفسية، فقد يكون أحياناً مصحوباً بلحن الرجوع الأخير والتوبة، وقد يكون أحياناً مصحوباً بالبحث عن التبريرات والتسويغات الاجتماعية المقبولة القادرة على محو الذاكرة، وبعضها يمثل اختراقاً مدروساً وتوجيهاً سياسياً وأمنياً من بعض الأجهزة الاستخبارية التي تموّل وتدرب وتسلح وتخرج لهم جوازات السفر، من أجل تأمين تنقلهم عبر الحدود وإيصالهم إلى المناطق المستهدفة.
قرار رفع القبول في علوم الشريعة إلى (80 %) وهو ما يعادل دراسة الهندسة والطب، سوف يؤدي حتماً إلى إغلاق كليات الشريعة وإغلاق هذه التخصصات، وقبل أن يعبر بعضهم عن غبطته بذلك عليه أن يعلم أن هذا المسار سوف يجعل العلم بضاعة محتكرة لبعض تجار التطرف، وسوف يكون الحديث في الإسلام وعلوم الدين لا يحتاج إلى شهادة اختصاص، وإنما يحتاج إلى شرعية الجماعات والحركات التي تحتكر الوصاية على الدين، مما يؤدي إلى زيادة التطرف الديني، وسوف يتم تفسير هذه الخطوة أنها تأتي في سياق محاربة الدين، مما يؤدي بشكل حتمي الى زيادة منسوب العنف والتطرف وليس العكس.
الدستور