كيف تساهم الحكومة في ترويج الإشاعات وتغذيتها. وكيف يكون الصمت نعمة على المسؤول ونقمة على الوطن. وكيف يصبح أي كائن خبيرا ومتخصصا ومفتيا في شؤون لها مطلع وليس لها خاتمة؟.
في مقدور هذه الأمور أن تضحى حقيقة وأن تغدو من طبائع الأشياء وجزءا أساسيا من بداهاتها عندما تنعدم المعلومة، وحينما يغلق وزراء الحكومة ومسؤولوها هواتفهم ويلوذون بالصمت المريب، ولتذهب الصحافة والحقيقة وتقصّي الخبر إلى جحيم التخمين ورمضاء التكهنات وغلواء الكلام العام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
ثم بعد ذلك لا تنفك الحكومة تلوم الصحافة وتندد بغياب المعايير المهنية من لدن وسائل الإعلام، من دون أن تعلم أنها السبب الأساس في غياب تلك المعايير وفي توفير مناخ خصب لتغذية الإشاعات وتسمين الأنباء غير الموثوقة، وفي قهر الصحافيين الساعين إلى تقديم وجبة معلوماتية دسمة تحترم وعي القارئ وتستجيب لحساسيته.
فبأي حكمة تعتصم الحكومة وأذرعها وأركانها ومؤسساتها وهي تغمغم وتهمهم وتقطّر الحقائق كما لو أنها تقتطع من جلدها، وما الحكمة في تخصيص ناطق رسمي باسم الحكومة لا ينطق على الأغلب بما يشفي الغليل، وإن نطق فمن باب التعميم الذي لا يتعدى ثنائية الإنكار أو الإيجاب؟.
ولقد بذل صحافيو "الغد" في الأيام الأخيرة، على سبيل المثال، جهودا مضنية في تتبع وزير المال كي يسألوه عن أحوال الأسواق في ظل تداعيات الأزمة المالية العالمية فلم يكن يرد أبدا إلى أن فتح الله عليه بعد لأي فصرح لـ"الغد" ما صرحه أول من أمس. فهل مطلوب من الصحافي أن يهرق ماء وجهه ويستنزف قواه كي يحصل على معلومة، وكيلا يخوض مع الخائضين في مياه التخمين وسوء التقدير؟.
وهل بهذه الطريقة تنهض جسور الثقة والتعاون والتشارك بين الحكومة والسلطة الرابعة. وهل بحجب الأنباء والمطاردة الماراثونية وراء الوزراء تنسجم الحكومة مع بيانها الذي نالت عليه ثقة البرلمان والذي شددت فيه على الشفافية والانفتاح الخلاق على وسائل الإعلام بمختلف حقولها؟.
وليت الأمر يتوقف عند هذا الوزير، أو عند ذلك الذي دعا رؤساء التحرير لوضعهم في صورة التطورات السياسية، وكان في كل جملة يرجوهم بشكل يقطّع القلب: "please, off the record"!، بل إن الأمر يشمل أولئك الناطقين الإعلاميين بلسان الوزارات والمؤسسات الحكومية والذي يخال الواحد منهم أن في حوزته أسرار مفاعل نووي، فيضنّ بالمعلومة أو يتهرب من الصحافيين ويتركهم يتخبطون في العماء، ولنا في الناطق باسم وزارة التعليم العالي دليل أكثر سطوعا من شمس تموز.
إن مناخا مثبطا للهمم كهذا يمنح الإشاعة أجنحة اخطبوطية، فلا غرو أن نطالع أنباء لا سند معرفيا لها، أو أن نفتح أفواهنا مذعورين ونحن نقرأ أخبارا ألفها "صحافي" كسول أعيته الحيلة في أن يحصل على مصدر مطلع أو موثوق أو مقرب يرفد خبره بما يكسوه لحما ويجعله يستحق الاهتمام والمتابعة. على أنني لا أبرر البتة مثل هذا السلوك، وآنف من الامتثال لضغائنه، لكنّ شح التصريح بالنبأ الصحيح يرفد بيئة التضليل بكل عناصر الديمومة والبقاء.
وأن تعمل في هكذا بيئة وترفع شعار المهنية وتتطلع لرفع سوية الأداء الصحافي بحيث يشتمل على ما تتوق إليه من إشاعة قيم النزاهة والأخلاق وتفعيل مدونات السلوك، فإن حالك كحال ذلك الناطح صخرة يوماً ليوهنها، فما أضرّ بها وأوهى قرنه الوعل.
m.barhouma@alghad.jo
...