ما بعد حلب، ليس كما قبله، وعلى كل ذي عقل رشيد أن يعي خطورة المقبل من الأيام، فالمنطقة اليوم في مخاض مرحلة مفصلية جديدة لها انعكاسات على الواقع السياسي والأمني، لا على صعيد القضية السورية فحسب، بل على كافة دول الإقليم.
فما حصل ويحصل في حلب، واقع له توابعه وارتداداته، التي تتطلب التعامل معها، والوقوف مطولاً عندها، فالحل العسكري الذي فرض نفسه على أرض الواقع، لن يثمر إلا حقداً وكرهاً في صدور الآلاف من أبناء حلب بشكل خاص وسوريا بشكل عام، وهذه النار التي تتأجج في الصدور نتيجة الإحساس بالظلم والقهر يغذيها تجار الدين والدم، الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، ليبثوا سمومهم وأفكارهم المتطرفة، للتأثير في مشاعر أناس رأوا في حلب ما لم تره عين ولم تسمع به أذن.
ارتدادات زلزال حلب لن تكون أقل من "تسونامي" يعصف بالمنطقة والعالم، وكما يعلم العارفون بالطبيعة وأحوالها فإن أمواج "تسونامي" برغم أضرارها الكارثية والتدميرية التي لا تبقي أمامها أخضر ولا يابساً إلا واقتلعته من جذوره، ما هي إلا نتيجة لزلزال ولكنها أكثر إيلاماً وتدميراً من الزلزال نفسه.
لا نتحدث هنا عن مواقف سياسية أو عمن هو المخطئ أو المصيب، ولكننا نتحدث عن مئات الآلاف من المدنيين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا في حلب، ليكونوا وقوداً لحرب لم تبق أحداً منهم إلا واكتوى بألم اليتم أو الترمل أو التشرد، ليخرج اليوم بنفس تتقاذفها نيران الكراهية والحقد، جراء المعاناة الإنسانية التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، فمن خرجوا من حلب ليسوا إلا بقايا بشر، مؤهلين لأن يصبحوا قنابل موقوتة لا يُعرف متى ستنفجر في وجه العالم، لتصب جام غضبها على كل من يقف في طريقها، فمعاناة أبناء حلب ستكون لها تأثيراتها النفسية التي ستغير مفاهيم حياتهم وأفكارهم وتوجهاتهم.
وعلى الجانب الآخر تقف التنظيمات الإرهابية، التي لن تعجز عن المتاجرة بدماء أهالي حلب وتشردهم وتهجيرهم، للتسلل إلى عقول الشباب وتغذيتها بالعنف والتطرف والأفكار الشاذة، مستفيدين من حالة الصدمة التي يعانيها العديد من شباب المنطقة جراء ما يحدث في حلب وغيرها من المناطق.
اليوم، وزارات التعليم والثقافة والإعلام والأوقاف هي الوزارات السيادية، وهي حامية الدول ومستقبلها، فهي الأداة الأقدر على مواجهة الأفكار الضالة التي تموج بها منطقتنا، وستتزايد حتماً بعد ما حصل في حلب، فنحن أمام مفترق طرق فإما الغوص في مستنقع العنف والإرهاب، وإما التصدي الحازم لكل المفاهيم والأفكار التي تغذي التطرف، وعلى الجميع أن يعي خطورة الموقف، والعمل الجماعي المشترك، لوضع استراتيجيات إعلامية وثقافية ودينية على المستوى الإقليمي لنشر قيم التسامح والسلام، فما تبثه بعض القنوات الفضائية اليوم ما هو إلا شريان حقد وكراهية يغذي الإرهاب والتطرف.
نعم، الخارجون من حلب بحاجة إلى غذاء ودواء، ولكنهم بحاجة أيضاَ إلى تضميد جراحهم ومداواة الألم الذي يعصف بنفوسهم، لكيلا يكونوا عرضة للسير في طريق العنف والتطرف، نعم هم بحاجة إلى حليب لاطفالهم، ولكنهم بحاجة إلى من يزرع الأمل في عقول هؤلاء الأطفال، ويطبب أرواحهم التي امتزجت بمناظر الدم والقتل، نعم هم بحاجة إلى مأوى، ولكنهم بحاجة إلى من يمسح على رؤوس الأيتام والأرامل، ليخفف معاناتهم ويشعرهم بأن هناك يوماً آخر يستحق الحياة.