الكذب آفة إجتماعية يمارسها أفراد المجتمع للهروب من المشاكل وعدم مواجهة الحقيقة وتحقيق مكاسب شخصية على حساب حقوق الآخرين، ولذلك الأديان السماوية والأعراف الحضارية قد حرمت ودعت لنبذ الكذب لما له من آثار وخمية على الأفراد والمجتمعات على حد سواء.
وبالرغم من كل المنظومات الأخلاقية والقيمية ذات الروافد الدينية أو البشرية بكافة أشكالها قد عملت على ابراز خطورة الكذب وتصنيفه ضمن السلوكيات السلبية والمشينة، فإن هذا التصنيف لم يمنع من انتشاره وملازمته للحياة البشرية في كل الحضارات قديما وحديثا.
والملفت للنظر، ان الكذب يمتد في حياتنا ويدمرها كما تمتد النار في الهشيم، لانه يدخل في كل صغيرة وكبيرة من مفردات حياتنا اليومية، فالبائع يكذب حين يقول ابيعك السلعة دون مكسب، والسياسي يكذب لتحقيق طموحات شخصية عندما ينافق اصحاب السلطان ليحصل على مركز مرموق، والدول الكبرى تكذب عندما تستخدم شعارات حقوق الإنسان لكي تتدخل في الشئون الداخلية للدول الاخرى وتعمل على اضعافها لتحقيق مصالح ذاتية.
وهكذا يكون للكذب حضورا قويا في شتى المجالات في السياسة والإدارة والتجارة والإعلام والخدمات، وفي العلاقات الاجتماعية والتربوية والأسرية والعاطفية محدثا تشويشا نفسيا في العلاقات الاجتماعية فتشوبها انعدام الثقة بالاخرين، ومن ثم تقلص الإحساس بالامان الاجتماعي وفي النهاية يقود المجتمعات للانهيار.
ووسط هذا الركام من الكذب اليومي ينشأ الأطفال في مجتمعات تعوده على الكذب عن طريق مخالطتهم للكبار الذين يقعون في مثل تلك المحظورات، وعندما نواجهه بأنه كاذب يكذب مجددا ليؤكد انه غير كاذب دفاعا عن نفسه وخشية العقاب البدني او النفسي.

كذب الصغار
الاطفال كما الاسفنجة تتشرب كل ما تجدها من سوائل، فالاطفال يحاكون الكبار ويشربون منهم قيمهم، ومع انتشار كذب الكبار نتيجة عوامل عديدة، فان الاطفال يلجأون للكذب للهرب من اداء واجبهم المدرسي، او تجنبا للعقاب وبطشه، او للحصول على العطف والمحبة من الكبار .
وقد يميل الطفل الى الزهو ولفت الانظار فلا يجد غير الكذب اويقلد والديه حين يستمع الى كذبهم، فقد يكذب الأهل امام اطفالهم على غير شعور منهم فيمتدحون شخصا في حضوره فما ان يغادرهم حتى يذمونه ويظهرون سيئاته، فيفهم الطفل من ذلك ان أهله كاذبون.
ويلعب التفكك الاسري وعدم الشعور بالأمان والنقص الى دفع الاطفال للكذب، كما ان تمييز الاهل بين الاولاد او الاخوة وتفضيل بعضهم على بعض، وكذلك ظلم المدرس الذي يدفع الطالب للكذب تخلصا من العقاب او القصاص.
وهذا ما يعني ان الطفل يتحول الي ضحية مجتمع يقهره ويخيفه ويعلمه الكذب حتى يحمي نفسه من اي شكل من اشكال العقاب او التحقير الذاتي، فقد يجد الطفل نفسه مضطرا للكذب كي يجذب اليه انتباه الاخرين.
فواجبنا ان نعالج ظاهرة الكذب وان تحث الاطفال على الصدق .

أسباب الكذب
ترتبط ظاهرة الكذب بعدد من العوامل ومنها، الضغط الاجتماعي القوي الذي يهمش احتياجات الفرد في الحرية او الحصول علي حقوقه المشروعة
كما يرتبط الكذب انغلاق المجتمعات التي يغيب فيها الحوار ويضعف فيها التواصل التربوي نتيجة تقديس الكبار سنا او مركزا اجتماعيا او سياسيا او علميا على حساب من هم أصغر منهم سنا او تجربة أو مركز اجتماعي، فيقاوم الشخص هذا التقديس بالكذب رفضا نفسيا منه لفكرة سلطة الكبار حتى ولو كان الأب أو الأم أو المعلم أوالأستاد أو المدير أو الجار.
فقد يكذب الطفل أو الشاب خوفا من الزجر والعقاب بجانب محاولة نفسية منه لاثبات الذات، والحق في الخطأ حتى كلازمة من لوازم التعلم واكتساب المهارات والخبرات.
لكن يبقي أشد انواع الكذب هلاكا للمجتمع، عندما يستعمل الكذب في النصب والاحتيال للحصول على حاجيات لا تدخل في باب الحقوق المشروعة للفرد.
حيث يكذب التاجر الغشاش عبر عرض بضاعة مغشوشة بأثمان مغشوشة. أو الحرفي الغشاش أيضا عبر التهاون في احترام التزاماته وأبسطها الوقت، كما يكذب الإداري على المواطن عبر التقاعس في إعداد وثائقه لابتزاز رشوة.
كما يحضر الكذب داخل العلاقات الاجتماعية بما فيها العاطفية،حيث يسعى كل طرف إلى قضاء وطره من الطرف الآخر وفق أساليب ملتوية عبر بوابة الكذب

أنواع الكذب
ويصنف علماء الاجتماع الكذب الى انواع وهي، الكذب الخيالي، وهو موجود بكثرة لدي الاطفال ومؤشر علي خصوبة خيالهم كأن يروي لأصدقائه تفاصيل رحلة لم يقم بها أو يتحدث عن صفات لا يتصف بها في الحقيقة.
والكذب الادعائي، كأن يبالغ الفرد في وصف مثلا تجاربه الخاصة ليحدث لذة ونشوة عند سامعيه وليجعل نفسه مركز إعجاب وتعظيم ناتج من شعوره بالنقص.
وثالث هذه الانواع الكذب الانتقامي ككذب الفرد بهدف الصاق تهمة بغيره باتهامات يترتب عليها عقاب، وذلك نتيجة غيرة الكاذب من غيره.
أما الكذب الدفاعي، فيلجأ اليه الفرد خوفاً من العقوبة وللتهرب من سلوكه المرفوض من المجتمع .
ويبقي الكذب المرضي أو المزمن من اشد انوع الكذب لانه يتحول مع الوقت الي ظاهرة مرضية تحتاج العلاج.

نفسية الكذاب
ويصنف علماء النفس الإنسان الكذاب في خانة المرض النفسي الذين تتسم شخصيتهم بالجبن ولا تتوفر لديهم قوة داخلية قوية تمكنهم من مواجهة الآخر وفق قيم الصدق والشفافية والوضوح وهو عبارة عن مناورة دفاعية يكون سببها الخوف من العقاب أو فقدان حاجة لا يستطيع تحقيقها باسلوب مباشر ولكن بطرق ملتوية.
كما ان الكذاب يفتقر الي الثقة في قدرته الشخصية التي تؤهله لاكتساب نصيبه من التقدير والاحترام الاجتماعيين، فيسعى عبر طوفان الكذب إلى استدرار احترام وهمي، يزول بمجرد اكتشاف حقيقته، وسرعان ما يعاقبه المجتمع المحيط به بعدم تصديقه في أي شئ يحكيه حتى ولو كان صادقا فيه.
ولعل أبشع أنواع الكذب الكذب على النفس، ومعتنق الكذب كأسلوب في التعامل مع الآخرين يقوده للكذب على نفسه ذاتها، وذلك عندما يحيطها بأدوار قد لا
تناسب مؤهلاته المادية والعقلية والنفسية ولا تتفق طموحاته مع الواقع مثل لجوء بعض الافراد للكثير من مظاهر الانحراف السلوكي لتحقيق ثراء سريع بتجارة المخدرات والرشاوي ليحقق مركزا اجتماعيا بالمال الحرام يحترمه الناس من خلال مركزه المالي

أخطار الكذب
يترتب على الكذب نتائج شديدة الخطور بالنسبة للفرد الكاذب، حيث تلحق اشد الضرر بسمعته وتؤدي لسقوط الكرامة وانعدام الثقة فلا يصدق الكاذب وإن نطق بالصدق، ولا تقبل شهادته ولا يوثق بعهوده.
كما يؤثر الكذب سلبا علي ثقة الناس ببعضها فيتعاملون مع بعضهم بروح من الخوف وعدم الامان، بل يقود الي انحراف سلوك وجرائم لا حصر لها يدفع المجتمع كله ثمنها باهظا.

مقاومة الكذب
الكذب سلوك مكتسب يتعلمه الطفل من المجتمع المحيط به، ولذلك فان علي الوالدين الاعتناء بتربية أبنائهم على الصدق وعلاج حالات الكذب التي تنشأ لدى أطفالهم حتى لا تكبر معهم فتصبح جزءاً من سلوكهم فيصعب عليهم التخلص منها
واولى درجات خلق الصدق في نفس الصغير تنطلق من اهمية زرع القيم والمعايير الأخلاقية في نفسه، والرقابة الذاتية، وإفهامه بان الله هو الذي يراقب كل شيء، وتربية ضميره بالتدريج بما يتفق مع مراحل نموه العقلي والنفسي . و تعزيز ثقته بنفسه و ان لا يكون جبانا بل شخصيه تواجه الخطأ لأصلاحه وليس الهروب من الخطأ بخطأ ابشع منه فبدلا من حل المشكلة تصبح مشاكل لا حصر لها
وللابوين الدور الاكبر في غرس قيم الصدق في نفس الصغير عندما يوفون بالعهد بصدق لصغارهم، ولنا في حديث رسول الله ( صل الله عليه وسلم ) اكبر دليل علي ذلك، والذي أخرجه أبو داود عن عبدالله بن عامر قال : "دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه واله وسلم قاعدا في بيتنا فقالت : ها تعال اعطيك. فقال رسول الله صل الله عليه واله وسلم ما أردت ان تعطيه؟ قالت اعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صل الله عليه واله وسلم أما انك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة(2).
فاذا نشأ الطفل في بيئة تحترم الحق وتلتزم الصدق، فان الطفل يشب على قيمة الصدق وتكبر معه في كل مراحل حياته.
وعلى ذلك فان تنمية روح الصدق لدى الطفل يكون عبر الوفاء بالوعود التي نقطعها له عنصر رئيسي في مكافحة الكذب، وكما قال رسول الله صل الله عليه واله وسلم أحبوا الصبيان وارحموهم واذا وعدتموهم شيئا فأوفوا لهم فإنهم لايدرون الا إنكم ترزقونهم.
وبذلك يكون للبيئة دور حاسم في مقاومة الكذب وغرس الصدق في نفوس الناشئة فلكل مجتمعو في كل بيئة يعيش بها الطفل الصغير تجعل منه صادق وصالح ويشكلون قدوة حسنة، كلما تشربها الطفل الصغير ونما عليها كما ينبت الزرع الاخضر يانعا عندما نرويه بالماء العذب.
وتشجيع الصغار على قول الصدق يعد حافزا لهم على تجنب الكذب، فاذا ما اعترف الصغير بخطأ كذبه يجب التوقف عن معاقبته، بل ومكافئته على قول الحقيقة مع اشتراط العقوبة في حرمانه من شيء يحبه لفترة كعقاب اذا وقع في الكذب مجددا.
ويلعب منح الطفل ثقة في نفسه مع اشعاره بالامان دورا مهما في مواجهة اي احتقار او اهانة يلقاها من المجتمع، فالثقة بالنفس عاملا مهما في علاج الكذب.
ويبقي للوالدين تربويا مهما وهو حث اولادهم على مصادقة الصادقين والبعد عن الكذابين، مثلما فعل سيدنا الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، وهو يحذّر من مصادقة الكذاب فيقول لابنه الحسن : " اياك أياك ومصادقة الكذّاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب ".
وكما جاء في الإنجيل المقدس
"لا تفتر الكذب على أخيك، ولا تختلقه على صديقك" (سفر يشوع بن سيراخ 7: 13)


"صُنْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّرِّ، وَشَفَتَيْكَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْغِشِّ" (سفر المزامير 34: 13)