في الحوار الذي جرى تحت عنوان سؤال النهضة وتجليات الخطاب الديني في مركز «شرفات» بالتعاون مع «مؤسسة مؤمنون بلا حدود»؛ بدت واضحة إشكالية العقل العربي الذي يعيش الاستقطاب الحاد بين فئتين متطرفتين، وكلاهما من أصحاب المطلقات، والخطاب الحاد القائم على الأفكار القاطعة التي تميل نحو الحسم في إصدار أحكامها على الآخر، ولا تميل نحو التقارب أو البحث عن المساحات المشتركة، وتنفر من مصطلحات وسط الطريق، وتتهم منطق النسبية، وتعتبر ذلك وجهاً خطيراً للمؤامرة.
الفئة الأولى تتسلح بفهمها للدين، وترى أنها وصية على مطلقات الوحي، وتعد أن ما توصلت إليه من فهم منقول عن علماء سابقين وأقوال متوارثة لا تقبل المناقشة وليس محلاً للجدل، وعلى الآخرين أن يسلموا لمنطقهم، لكونهم ينطقون عن الله وما جاء به الرسل.
والفئة الثانية من أعداء الدين، وهم أشد تطرفاً من الفئة الأولى، ويحملون من المطلقات القاطعة التي لا تقبل الحوار ولا الجدل ولا يجوز بحال التنازل عنها على النقيض تماماً من الطرف الأول ومساوي له في الحدة والتطرف ومنطق الوصاية على الحقيقة والإجابة الصحيحة بلا مساومة، وتتمثل بالقول : يجب إبعاد الدين، لا حرية مع الدين، ولا مجال للنهوض والتقدم إلّا من خلال تحييد الدين عن الدولة والسياسة، ولا فائدة برأيهم من كل محاولات تجميل الدين، ومحاولات تسويغه، ويجعلون جميع المتدينين في سلة واحدة، والفارق فقط في حجم القفص الديني، فالمعتدل برأيهم يعمل على زيادة حجم القفص مقابل المتشددين والمتطرفين الذين يريدون تضييق القفص.
من يرقب حديث الفئتين ويستمع لمطلقاتهم يجد أنهم قد أغلقوا أبواب الحوار الفعلي وسدوا أبوابه ونوافذه وإن ادعوا غير ذلك، بل أصبح الحوار لديهم عدمياً وعبثياً، وضرباً من ضروب تضييع الوقت والجهد، وعندما تدرك الإشكالية الكبرى لدى الفئتين لدى سماعك لحديثهما؛ تدرك تماماً الأسباب الحقيقية التي تقف خلف المجازر الدموية ولهيب المحرقة التي تجري في سوريا والعراق واليمن وليبيا، حيث أننا أمام استقطاب حاد وبشع داخل الشعب الواحد والأمة الواحدة، وكل منهما يرى ضرورة التخلص من الآخر لأنه لا لقاء معه ولا عيش ولا حرية ولا تقدم ولا نهوض إلّا بالتخلص من الآخر ولا طريق لذلك إلّا بالعنف والدم.
أصحاب المطلقات من المتدينين ومن أعداء الدين، كلاهما ينسى أنه يعيش مع الآخر في مجتمع واحد وفي وطن واحد وسقف واحد وفي سفينة واحدة، ولا مناص أمامهم إلّا العيش المشترك، ولا بد من التعايش مع اختلافاتهم الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية، والحوار مطلوب ابتداءً بين المختلفين، ولو لم نكن مختلفين لما كانت لنا حاجة بالحوار، ولا يعني الحوار بأي حال إخضاع الآخر لما تؤمن من مطلقات، وإنما يهدف الحوار إلى البحث عن صيغة تؤمن الحرية لنا جميعاً وتحفظ إنسانيتنا وكرامتنا وآدميتنا، ولا مناص من ذلك، وينبغي أن نعلم أننا قادرون على ذلك عندما نؤمن أن الحياة حق لنا جميعاً بلا استثناء والوطن لنا جميعاً، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وإنما نحن نجتهد للاقتراب منها، والاقتراب منها أمر نسبي؛ بحسب ما لدينا من علم ومعرفة وفهم وأدوات وقدرات ومهارات، تختلف من شخص لآخر ومن مكان إلى مكان ومن زمن إلى زمن.
الدستور