النهايات بمجملها غير جميلة..نهاية المباراة وعودة الجمهور إلى بيوتهم حيث تبقى الشباك وحيدة في عتمة الليل لا يهزّها الا صمت المكان ولا يقطع خطوط التماس الا الأكواب الفارغة والأوراق الممزّقة ،نهاية اليوم الدراسي والكلام المكتوب على السبورة ،بصمات المعلّم على فراغ الدرس، والمقاعد المحشوة بورق الساندويتش والمحارم المستعملة،المضايف بعد انقضاء الليل و التصاق الحكايا والدخان والسعال في سقف المكان.. كلها نهايات غير جميلة...
«الا تحضر أفضل من أن تحضر متأخراً» هذا الاستنتاج المقلوب وصلت إليه ليل الجمعة الماضية عندما حملنا «أكياس» الزيتون وذهبنا إلى المعصرة ، يبدو أننا تأخرنا كثيراً في جمع المحصول، وتأخرنا أكثر في الوصول إلى العربة الأخيرة من « قطار القطاف» الذي يجري بين السهول ويقضم الأغصان وينفث دخانه و أحلام الفلاحين...كان المكان يفتقر إلى ضجّته الشهية ،المكائن تعلك وجبات الزيتون «من غير نفس» ، تماماً كما «يواكل المعزّب ضيفه طويل البال»، مجاملة وتمضية وقت لترفع الجلسة لا أكثر ..الساحات الأمامية خالية من التزاحم في حجز دور ، ومن الأكوام الكبيرة التي يفصل بين بعضها الأراجيل والحفايات كعلامات بارزة كي لا يختلط «الحابل «بالنبالي»...كما افتقد المكان إلى المناوبين الليليين من الشباب الصغار لاسيما من لم يستكملوا متطلبات النجاح في التوجيهي ومن أصحاب «المادتين» ع الفصل الثاني ، وتميّز بوجود الشباب «المتأنقين» أصحاب السُّتر «الشامواه» و»الكنادر التوب سايدر» والعطر «الخليجي» ..
تستطيع ان تعرف ان الموسم في نهايته ، عندما ترى بكمات صغيرة تدخل إلى صدر المعصرة بجرأة وثقة زائدة ،تنزل أكياسا بعدد الأصابع وتمضي، تتبعها سيارات «هاتش باك» تحضر «رباطات متقزّمة» يمكن عصرهن على «المولينكس» ويأخذ صاحبها «كرت دور» وينتظر كما يفعل المزارعون الكبار..أما عن العمال الوافدين الذين ينزلون الحمولات ويفرغونها في «جرن المعصرة» فهم يعدّون الأيام على الأصابع حتى «يروحوا مصر»..رائحة الزيت المركّز تتصاعد في المكان ، وبخار الزيت الساخن ،الممزوج بدخان خفيف يصنع هالة حول الضوء ويعطي غباشا طفيفاً حول المعوذات المكتوبة على زوايا المعصرة ، مساء الجمعة كان اجتماعاً مصغراً لأصحاب «الحواكير» ، فأرباب الأراضي الواسعة والكروم الممتدة قد انجزوا مهمّتهم مع نهاية تشرين ولم يتورّطوا بسماجة كانون الذين تتدني فيه درجة الحرارة تحت الصفر..أنظر الى الجرن والعامل الوافد وهو يقوم بتنقية زيتون الحواكير من الشوائب ...هنا خيط ،هنا قطعة زجاج ، هنا رباط حذاء ،هنا بطاقة شحن فارغة ومكسورة، هنا كعب كندرة ،لكن الزيتون بمجمله متشابه بين أصابع الرجل في حَبّه وُحبّه ..في المعصرة تطربني «كركعة التنك» التي يحملها المتفائلون بمنتوج يفوق وزن الزيتون المجلوب إلى المعصرة، بمعنى آخر لو قلبت حبة الزيتونة «حبة عوامة» فلن تملأ التنك المتفائل..
على المزراب يجلس أصحاب الحواكير ينتظرون خروج زيتهم وحولهم من التنك ما يساوي عدد الأبناء الذكور ...جلوسهم القرفصاء يشبه تماماً الجلوس لــ»تحناية العريس»..أخيراً ينزل من الحنفية سائل أصفر يميل الى الخضرة يتدفق بكثافة...يأمر الأب أن يفتح الأبناء باقي أغطية التنك كي لا يفور الزيت من «التنكة الأولى» ويفاجئهم بالضياع...يفتحون سبعة أغطية وينتظرون...بعد دقيقة يتضاءل الزيت، يخفت ،يصبح مثل الخيط، ثم يتضاءل ليصبح بحجم الخيط السري في «الدينار»..لحظات ويشير صاحب المعصرة له بانتهاء دوره ، بالكاد يملأ تنكة واحدة ويعود بالسبع الفارغات العجاف اللاتي أكلن أحلامه السبعة السمان..يسأله آخر العنقود الذي يحمل تنكتين فارغتين ويجري خلفه...»بتكفينا هاي يابا»..فيقول الأب المتفاقس:..هاي يا الله تكفي دهون لركبة جدّك..
في المعصرة ،ضجيج المكائن، زاوية «ردّ الزيت»، الحب المدهوس تحت الأقدام المستعجلة ،شوالات مفكوكة الرباط في انتظار مصيرها الأخير، كمتّهم يقف أمام قاض لينطق بالحكم، الفروة المشلوحة على كرسي الانتظار حيث غادرها الحجي «ليطيّر مي» ..كلها تفاصيل شهية مثل طعم الزيت الذي ينزل ساخناً وحاراً ..فالزيت والعمر أجمل ما في مذاقهما «هيئتهما» الأولى..
كنت أتابع سلوك الحاضرين الذي يلخّص الحياة كلها ، مهما اتسعت مساحتها وتشابكت خيوطها وخطوطها..الأربعيني معني بعملية «العصر» ومتابع لكل خطوة تمشي فيها «زيتوناته» من القبان الى المزراب، بينما السبعيني يضع يده على خدّه ينتظر ان يسمع اسمه على مكبّر الصوت بعد ان اكتفى بدور «شاهد على العصر»!!..
الراي