نحو عالم خال من الفقر أم من " الفقراء " ؟؟!
17-10-2008 03:00 AM
أصبح الفقر " الإنساني الصنع " اليوم فيروسا فتاكا سريع الانتشار بين بني البشر ، فأضحى أخطر من الفيروس المسبب للأمراض القاتلة والخطيرة ، وبات أشرس من الأعاصير أو البراكين أو الحروب التي تقع في مناطق شتى من العالم ، فبلغ السيل الزبى ، وبات العالم اليوم قنابل انشطارية مهددة بالانفجار في أي لحظة .
وفي سبيل الحد من انتشار ذلك الوباء ؛ بدأت هيئة الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالعمل نحو إيجاد عالم خال من" الفقر" بحسب أنشطتها وتقاريرها ومؤتمراتها السنوية ، وساعية لتحقيق " الأهداف الإنمائية للألفية الجديدة " التي اتفق على صياغتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الرامية إلى تخفيض نسبة الفقراء إلى النصف بحلول عام "2015 " م ، وهي من أجل ذلك قامت بدعم وتشجيع الدول على تأسيس وإنشاء صناديق وبنوك لتمويل المشاريع الصغيرة ( الإقراض متناهي الصغر) للوصول إلى مئة مليون من أشد الأسر فقرا في العالم مع نهاية العام " 2005 " م بحسب الأهداف التي حددتها قمة الإقراض متناهي الصغر عام " 1997 " في واشنطن ، واتجهت بالاهتمام إلى تمويل ودعم المرأة باعتبارها الأكثر تضررا من وطأة الفقر ، ووفقا لإحصاءات دولية عام "2004" م فقد بلغ عدد الأشخاص الأشد فقرا الحاصلين على قروض متناهية الصغر حول العالم حوالي "54.7 " مليون فرد بينهم " 45.2" مليون سيدة، أي أن القطاع النسائي يشكل ما نسبته 82.5% من هذه القروض .
ورغم أن تلك الجهود تهدف ظاهريا إلى الحد من ظاهرة الفقر ، ومساعدة الفقيرات قبل الفقراء على الخروج من دائرة الفقر المدقع ، إلا أنها تجاهلت أو تناست العلاج الحقيقي لذاك الداء والذي يفتك بما يقارب ( 1، 2) مليار شخص يعيشون على أقل من دولار يوميا ، و(2،8 ) مليار شخص يعيشون على أقل من دولارين في اليوم على مستوى العالم وفق تقرير التنمية البشرية لعام ( 2000 ) م ، والعدد في تزايد مستمر، كما وتشير آخر الدراسات الاقتصادية إلى أن " 25 % " من سكان العالم يحصلون على "75 %" من الدخل العالمي ، وجاءت تلك الجهود كقطرات ماء بالكاد تبل ريق أولئك المساكين ، كما أن توزيع تلك الأنشطة لم يكن متوازنا وفعالا ليغطي كافة الدول التي ينكب بها الفقراء هائمين على وجوههم ، فبينما نجد بأن نسبة الفقر قد انخفضت في عدة مناطق في آسيا نجد مناطق أخرى ( كجنوب آسيا وإفريقيا ) لا يزال الفقر فيها في ازدياد مطرد .
ولا بد هنا من ذكر مجموعة من الحقائق كان حري على المنظمات العالمية أخذها بالحسبان ، فالفقر مشكلة عالمية استفحلت نتيجة لأسباب شائكة ومتعددة ، وعليه فإن علاج تلك المشكلة يجب أن يكون علاجا جذريا؛ أي أن العلاج يجب أن يكون موجها للأسباب لا للنتائج ، فثمة فرق كبير بين" الفقر " كظاهرة وبين" الفقراء" كنتيجة مترتبة عن تلك الظاهرة وعلى ما يبدو بأن تلك الأنشطة والمشاريع والتي من بينها صناديق ومشاريع القروض متناهية الصغر لتمويل المشاريع الصغيرة بما لها من فوائد محدودة ؛ إلا أنها قد غضت طرفها عن المشكلة وسارعت إلى علاج نتائجها فهي تعد علاجا مؤقتا ، كالعلاج الكيماوي لمريض السرطان ، فجاء علاجها موجه " للفقراء " وهي تحاول أن تساعدهم للخروج من دائرة الفقر ، لذا كانت النتائج متفاوتة ومحدودة ، ناجحة هنا وفاشلة هناك ، فقد تنجح في نشل بعض الفقراء من وحل الفقر ، لكنها لن تساعد في وقف تزايد نسبة الغائصين فيه ، فتجد إلى جانب النجاحات التي تتحقق عند بعض أولئك الفقراء ، فشل عند البعض الآخر ، أو أن بعضهم تنقصه الأفكار والإدارة الجيدة لإنجاح تلك المشاريع .
كان الأجدى بتلك المنظمات لو أنها تصدت " للفقر" كظاهرة تشكلها أسباب وعوامل متشعبة ، وهنا علينا التمييز بين الفقر " الطبيعي " و الفقر" المختلق" ؛ فعندما يولد الإنسان ، مثلا ، لأبوين لا يجدان بيتا يؤويهما ولا يملكان قوت يومهما فمن الطبيعي أن يعيش هذا الطفل في فقر مدقع وهنا يسمى الفقر" طبيعيا"؛ ولكن الذي ليس من الطبيعي هو أن تتكدس الأموال عند بعض حكومات الدول الفقيرة دون أن تساهم بإنفاقها على الذين يقفون على شفا حفرة من الفقر؛ بل أنها تزيد بقوانينها حالة الفقر عند الشعوب ، فبتمترس الأموال بيد فئة قليلة من المجتمع ، وبرفع الضرائب وزيادة الأسعار على الفئة التي لا تستطيع تحمل ذلك ، تحصل المشكلة وتتفاقم فكأنما تساهم الحكومات بتفقير الشعوب وزيادة نسبة الفقراء وهنا يكون الفقر " مختلقا " .
وحتى نستطيع مواجهة الفقر فعلى منظمات المجتمع الدولي أن تعي حقيقة أن هناك مجموعة من الأسباب التي أسهمت في تنامي مشكلة الفقر في العالم وبخاصة في دول العالم " الثالث " ، وأن هناك معيقات تقف في وجه الحد من الفقر عالميا ، فسياسات الدول الغنية والكبرى في العالم التي لا ترى إلا بعين واحدة ، والتي تنفق سنويا ملايين المليارات من الدولارات في المجال العسكري وتصنيع الأسلحة وافتعال الحروب والمشكلات في مناطق شتى من العالم ( في العام 2000 كانت دول مجموعة الثماني تمثل ما نسبته 12% من سكان العالم و45% من الإنتاج و60% من النفقات العسكرية ) ، إضافة إلى تنامي فوائد القروض التي تثقل كاهل الدول الفقيرة ، وعدم إتاحة الدول الغنية الفرصة للدول الفقيرة في الوقوف على قدميها ومساعدتها فعليا بالانخراط في الأحلاف والمنظمات الاقتصادية والتجارية التي تنشئها تلك الدول " الغنية " ، وعدم تشجيع صناعات الدول الفقيرة للاندماج في الأسواق العالمية ،جميع تلك الأسباب أدت إلى تزايد عدد الدول الفقيرة وإلى توسيع الهوة ، فأصبح العالم منقسما إلى طبقتين ؛ أغنياء وفقراء .
فلا بد لهيئة الأمم المتحدة من اتخاذ إجراءات حازمة لاجتثاث شجرة الفقر من جذورها بدلا من تقليم أغصانها ، فعليها أن تلزم الدول الصناعية الكبرى بتقديم معونات ومساعدات مالية سنوية لصالح الدول الفقيرة ، إضافة إلى دور صندوق النقد الدولي الذي يتوجب عليه شطب الديون المترتبة على الدول الفقيرة والنامية على حد سواء ، ويجب أن تخلق الدول الصناعية الكبرى ( الثمانية ) بيئة استثمارية وصناعية في الدول الفقيرة ، وفي جانب الإقراض متناهي الصغر فيجب إلزام الحكومات الغنية في الدول الفقيرة بدعم وتمويل البنوك والمؤسسات والنشاطات المتعلقة بهذا الجانب .
إن تزايد أعداد الفقراء في العالم يجعلنا نقف أمام معضلة كبيرة ، وكارثة إنسانية لن يسلم منها الأغنياء قبل الفقراء ، وتحتم على جميع الدول إنفاق الملايين في سبيل القضاء على الفقر بدلا من إنفاقها في جوانب تقود العالم إلى التهلكة .
وأما بالنسبة للدول العربية فيجب أن لا تساهم حكوماتها " الغنية " ( بشكل أو بآخر ) في زيادة الفقراء فقرا والأغنياء غنى ، فرفع أسعار المواد الأساسية للفقير ، بمقابل خفض الضرائب والرسوم على المواد غير الأساسية ( الكماليات ) ، وزيادة الضرائب باختلاف أشكالها عليهم ، وتمكين النسبة القليلة من الأغنياء من احتكار أموالهم وعدم الاجتزاء منها لصالح الفقراء ، كل ذلك يسهم في خفض الدخل اليومي للفرد ، ويوسع الهوة بين الفقراء والأغنياء ، وسيؤدي إلى إيجاد عالم ليس فيه مكانا للفقراء .