حسناً يفعل طلال سلمان بجريدته "السفير"
عقل العويط
13-12-2016 09:06 AM
للمرة الثانية خلال أشهر معدودة، يعلن الأستاذ الكبير طلال سلمان أن "السفير" ستقفل. هو استطاع بعد الإعلان الأول أن يتجاوز المحنة الاقتصادية بفضل المساعدات المالية التي تلقّاها، فهل سيتمكن هذه المرّة من إبعاد الكأس عن شفتَي الجريدة التي اضطلعت بدور بالغ الأهمية في صناعة جزء من صورة لبنان الإعلامية والثقافية الزاهية، أم أن القدر الذي ينتظر "صوت الذين لا صوت لهم" سيلفظ حكمه المبرم، وسيدور دورته المأسوية لـ"يزور" الصحف الأخرى ويسدل عليها ستار الأفول والموت؟
لو كان في مستطاعي أن أتخطى الأصول واللياقات، لقلتُ في علني ما أقوله في سرّي. أنا الذي كتبتُ مراراً وتكراراً عن وجوب الاستمرار في الصدور بـ"اللحم الحيّ"، أُسارع إلى القول الآن، وبقوة، إن هذا الاستمرار يجب ألاّ يعود جائزاً – بل يصبح جريمة نكراء - إذا لم يتمكن من المحافظة على النوعية المهنية المرجوّة من جهة، وعلى تأمين حقوق العاملين، بما يحفظ كرامتهم وعيشهم من جهة ثانية. إني أفضّل ألف مرة أن تقفل "السفير"، وأن تقفل معها بعض الصحف العزيزة، على أن تستمر على الحال المزرية التي هي عليه اليوم، من الضيق والعوز والانهيار والعجز. أقول هذا، كي لا أستخدم عبارات من مثل ما تتعرض هي وصحافيوها له من أشكال القهر والإفقار والذلّ والمهانة. إني لَأفضّل ألف مرّة أن تطلق صحفٌ كريمة الرصاص على رأسها على أن تواصل الصدور وهي لا تستطيع أن تؤمّن حقوق العاملين فيها، أو تسوّي أوضاعهم، بل وهي تبذل من رصيدها المعنوي والبشري ما لا يجوز التضحية به، وتنزف من ضوء حبرها الجليل الذي يشحّ يوماً بعد يوم، من دون أن يتراءى في الأفق أيّ بصيص من ضوءٍ أو أمل.
إن أخطر ما يمكن أن تتعرض له الصحافة اللبنانية، أن تجد صحيفة عريقة نفسها مهددة بالإغلاق. أياً يكن السبب. فيا لتعاسة لبنان، ويا لمصيره الوجودي الأسوَد، إذا كان مثل هذا الأمر على وشك التحقق، فعلاً لا قولاً. تاريخٌ من الحريات والانجازات والمعايير والمفاهيم والطقوس والتقاليد المرتبطة بقيم المواطنة والعقل والنقاش والرأي والتعدد والاختلاف والحداثة والديموقراطية: تاريخٌ كهذا، يجد نفسه مضرّجاً على الأرض تماماً، فريسة كل الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة.
عندما أعلن طلال سلمان قبل أشهر أنه يريد إغلاق جريدته، لم أشأ أن أصدّق أن "السفير" قد تواجه هذا المصير. لم أُرِد أن أصدّق أن جريدة ضمّت في تاريخها، ولا تزال تضمّ، كنوزاً من الأقلام الطليعية في السياسة والفكر والثقافة والرأي والأدب والفن، وتفتح صفحاتها لاستقبال الأقلام المحلية والعربية، يمكن أن تسدل الستار على مآثرها هذه، لأيّ سبب كان. فكيف إذا كان السبب مادياً. سحقاً للأسباب، أياً تكن!
كلّ صباح، كنت أقرأ "السفير"، وسأظلّ أقرأها إلى العدد الأخير، أولاً من أجل الحرية، وثانياً للاطلاع على بعدها الثقافي، وثالثاً لمعرفة ما تنشره، وتعبّر عنه، وتومئ إليه من دلالات. ليست هي جريدتي الأولى ولا المفضلة، لكنها جريدة ضرورية لي، بل ضرورية مطلقاً، وبإلحاح، وبقوة. من أجل لبنان. ومن أجل الحرية. والتنوع. والتعدد. والاختلاف. يجب أن يكون ثمة جريدة كجريدة "السفير" في حياتنا. ويجب أن تبقى.
هي جريدة رأي وموقف واتجاه، لكنها تتسع وترحب للآراء والمواقف والاتجاهات المتنوعة، وأحياناً المختلفة معها. وإذ أعتزّ شديد الاعتزاز بتبنّيها حركات التحرر العربي، وبوقوفها ضد أنظمة الاستبداد والرجعية، وبتأييدها المطلق للقضية الفلسطينية، ورفعها لواء الفقراء والموجوعين والمسحوقين والمتألمين وأبناء الطبقة العاملة، يؤلمني أشدّ الألم، أنها كانت واجهةً ومنبراً لبعض الآراء التي أطلقتها، ولبعض المواقف التي كانت انتهجتها خلال مراحل متنوعة من الحرب اللبنانية، وخصوصاً ما يتعلق بالاقتتال الداخلي بين اللبنانيين، الطائفي والمذهبي والمناطقي. خلال حقبة الوصاية السورية البشعة على لبنان، وخلال مرحلة النظام الأمني، السوري – اللبناني، لم يكن موقف الجريدة ناصعاً، بل كان ينتهج خطاً يدافع – يا للمفارقة! - عن النظام الديكتاتوري السوري، بل يرثي بتعظيم وتفخيم، حيناً، موت بعض قادته من رجال الاستخبارات الرهيبة الذين ارتكبوا أعظم الشناعات في حقّ لبنان واللبنانيين، فضلاً عن الشناعات في حقّ السوريين والفلسطينيين والعراقيين.
كان، ولا يزال، من حقّ "السفير" أن تكتب ما تشاء. يجب أن أحترم لها هذا الحقّ، وأن أدافع عنه، وإنْ كنتُ أناهض مضمون بعضه بقوة، وألومها عليه. لستُ كاتباً حزبياً ولا صحافياً حزبياً. هذا موقفٌ يهمّني أن أُعلي من شأنه وأن أُشهِره على رؤوس الأشهاد. لكني لا أنتقص الكتّاب والصحافيين الحزبيين، ولا أقبل بأن يُنتقَصوا، أو يُنتقَص منهم، حتى لو كانت مواقفهم ضدّ ما أؤمن به. بل خصوصاً حين لا تكون مواقفهم متوافقة مع مواقفي. هم أحرار في ما يرتأونه لأنفسهم ولكتاباتهم. شخصياً، أرى في مسألة "التورّط" الحزبي الضيّق والمتزّمت، أو مسألة الانحياز إلى نظام ديكتاتوري أو أمني، انتقاصاً لقدرة الكاتب والصحافي على ممارسة وظيفة العقل، وحرية إبداء الرأي والنقد والاختلاف، ولا سيما مع الذين قد يلتقي، موضوعياً، وإياهم، على الكثير من الأمور والمواقف.
اليوم، للمرة الثانية، يعلن طلال سلمان أن "السفير" لن تستطيع إكمال مسيرتها. لو استطعتُ أن أتخطى اللياقات لقلتُ جهاراً: حسناً يفعل طلال سلمان بجريدته. هذا ما يجب أن تفعله الصحف التي تعاني ما تعانيه. لكني أقول بصوتٍ عالٍ إن هذه الجريدة ضرورة، مثل الضرورة اللبنانية، المختلفة، المتنوعة، والمتعددة. هذا في ذاته، يمثّل، في رأيي، سبباً عظيماً جداً للمحافظة على هذه الجريدة، ولصون استمرارها في الحياة اللبنانية.
يا للهول، إذا غداً، كان علينا أن نقرأ الصحف، فنبحث عن جريدة "السفير"، كجريدة نحملها بالأيدي، ونقلّب صفحاتها، فلا نعثر عليها، لا في الأكشاك، ولا في المكتبات. هذا عارٌ مطلقٌ. بل هذه طعنةٌ في قلب الوجود اللبناني ذاته. بعد قليل، سنكتشف أن لبنان نفسه هو الذي سيواجه مثل هذا المصير الكارثي. انتبِهوا جيداً إلى مفاعيل هذا الإنذار الخطير. لبنان هو الذي يواجه الخطر الوجودي، لا فقط صحافته المكتوبة. فانتبِهوا. انتبِهوا جيداً... قبل فوات الأوان!
النهار.