محمد طمليه: امتزاج ترنيمة الرحيل بسخرية من زمن الهزيمة
سليمان القبيلات
16-10-2008 03:00 AM
صبيحة انقشاع آخر امتحان في التوجيهي للعام 1980 شاءت الأقدار أن أتعرف على راحلنا محمد طمليه الكاتب الذي عاش ساخرا من الدعي وادعائه.
محمد هذا رحل ولن يكون بعد اليوم "شاهد عيان" ينثر على الصباحات سخرية مُرّة تهز الوجدان قال مرّة أن "أليكسي" في رائعة دستويفسكي "الأخوة كارامازوف" أوحى له بها وبـ"شاهد عيان" الذي كان يكتبها.
بقي محمد وفياً لشهادته العيانية حتى غادر تاركا رصيداً ثرّاً من رصده لأوجاع الناس المتعبين. كان تلقائيا يتسلل إلى الروح ليبثنا أوجاع رجل احتله التيه يحتسي القهوة على الرصيف منتظراً اللاشيء.
كان محمد معروفاً لكل من "فك الخط" على طريقة تعبير الأردنيين في التعبير عن المتعلمين قبل انفجار التعليم أو انكسارنا.
كان وقت ظهيرة حين دلفنا إلى ما يشبه المنزل في منطقة وادي الحدادة الشهيرة بفقرها وتعبها وانزوائها الخجول أمام مهابة الثراء المُطلّ من علٍ غير آبه بتعب الجيران وكدّهم.
كنا ثلاثة جئنا من قرية منسية مُحمّلين بتوق التعرف لهذا اللاهج بالماركسية التي انضممنا إلى حزبها رغم أن حالنا يشبه "أطرش في زفّة". قدمنا سعياً وراء حب استكشاف معاناة حتى في المدينة التي تنتج "مناضلين" لا يأبهون السجون ويقودون التظاهرات والاعتصامات ويعودون آخر الليل ليواجهوا خيبة خواء القدور وصدود مكان لا أُلفة فيه مع فقر يحتل الجنبات.
كان هذا محمد طمليه، الخمسيني الذي رحل دون إبطاء بعدما ألانت عريكته سنين السُّهاد والسهر واللهاث وراء إفشاء السخرية والابتسام وتعميمهما ليصبحا ثقافة عامة في مواجهة الهزيمة التي رآها متجلية في كل التفاصيل.
كانت سخرية طُمّليه تذرع الروح من أقصاها إلى أقصاها. سألته العام الماضي يوم انتخابات رابطة الكُتّاب سؤالاً أعرف أنه يمقته عن الأحوال والأيام . نظر إليّ شزراً وبدا أن الموت لديه غصّة مفاجئة لبهجة نبض الحياة.
كان الموت عنده قريباً مما أسماه ت. س. إليوت "الموت في الحياة". كان طُمّليه ثيمة سخرية مُرّة بثها دون كلل في كتاباته وأوغاده وفي كل ما حدث له دون سائر الناس, وفي تلك التي توجّه لها بطبيعة الحال. كانت سخرية طُمّليه تأبيناً لمجتمع أو لمجتمعات اعتبر حصادها خواء وقشوراً دون لُب، لذا كانت سخريته مؤلمةً كوخز إبرة.
قال لي في العام 2002 محاولاً ثنيي عن خوض انتخابات نقابة الصحفيين: سترى كم أنت أحمق وأين سيقودك تجاهلك للسائد الممسك بتلابيب حياتنا.
بعد يومين كتب مقالة في "شاهد عيان" موجهة لي على هيئة سؤال استنكاري : ماذا ستستطيع يا صديقي أن تفعل للناطور ؟! بقي هذا السؤال يُلحُّ على مسامعي، حتى هاتفني بعدها بأيام ليقول: الناطور يملأ حياتنا تدجيناً وبؤساً فلن تقوى على فعل شيء، ولن تحصد إلا الخيبة.
نعم، كانت خيبة كما أراد لها الناطور أن تكون.!!
ناطور حرص طُمّليه أن يلسعه بسخريته التي كانت متسلحة بوعي عميق في أن البداية تكون في كشف بشاعة الواقع الذي نعيش. بشاعة، أعي الآن كم كان محمد يرحمه الله مشبعاً بمقتها حتى جعلها سخرية.