في ذكرى مولد المصطفى يتناول الناس أطيافاً من الحديث، تتحدث عن أبعاد شخصيته ، بعد أن يثني الله على أحد من خلقه يصبح كل ثناء تابعاً.
وبعد أن يمتدح الخالق عبداً من عباده، يصبح كل مديح متمم لفرع وليس متناولاً لأصل، كان مولده قدراً على قدر الزمان، وإطاراً جامعاً للمكان، وهدفاً لإسعاد الإنسان، فهو للكافة، بشيراً ونذيراً، وهو للعالمين رحمة، لم تتحدث الآية عن المسلمين وإنما تحدث عن العالمين، كل العالمين، الإنسان، كل الإنسان، «يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً» إذن هي العالمية في الرسالة.
والعولمة مع الشعوب وهي عالمية إنسانية، وعولمة رحمة، «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر» هي الإنسانية، والعفو، والاستغفار، وهي الشورى وليس التسلط، ولا يمكن لشخص أن يجمع هذه الصفات، إلا إذا تمتع بالخلق العظيم.
ومن هنا كانت شهادة ليس بعدها شهادة «وإنك لعلى خلق عظيم»، جمع الرسول في صفاته بين بشرية الإنسان وعظمة القائد، وأمانة الرسول المبلغ «اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد»، دانت له القلوب، وخضعت له الأصحاب، وأحبته حباً تقدم على المال والأهل والولد، ومع ذلك لم يفتن في كل هذا بل كان لهم جميعاً أسبق إلى أنفسهم من أنفسهم، وأرحم بهم منهم، «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم»، ومع نبوته وتأييد الله الوحي له، وانضباطية من حوله.
كان يراعي السنن الكونية، في الحرب والسلم، في العلاقة مع الأصدقاء، والحروب على الأعداء، كان يطبق تماماً مبدأ «الإعداد» «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»، ومبدأ الاعتماد «فإذا عزمت فتوكل على الله»، كان يؤمن أن فكرة الدولة لا بد لها من دولة الفكرة، وإذن لا بد لها من محضن وأنصار، فكانت الهجرة النبوية، وكان دستور المدينة المكتوب، وكان الدفاع عن الحق بالقوة، إذ أن الحق لا بد له من أسنان تحميه، والفكرة لا بد أن يأتي يوم تحتاج إلى مدافعة وإلا فسدت الأرض «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع ومساجد يذكر اسم الله فيها كثيراً»، لم يكن الذين يخالفونه في الرأي إلا بشراً يخطئون ويقبل مخالفتهم، ويحاججهم بالحوار «وجادلهم بالتي هي أحسن».
ويوصي بهم خيراً «أوصيكم بأهل الذمة خيراً»، ويقوم لجنازة يهودي فيقال يا رسول الله إنه يهودي فيقول: «أوليست نفس بشرية»، يا رسول الله في ذكرى مولدك اليوم نلتفت يمنة ويسرة، فلا نرى إلا أعداء تكالبوا وخطوباً تدفعها خطوب، وأبناؤك وأتباعك وأحبابك يقفون عند مشارف عظمتك، ومنهجك، كل يحاول من طرفه أن ينسج خيطاً، وما دروا أن الخيوط إذا لم يكتمل نسيجها لن تصنع ثوباً، وإن الحب إذا لم يكن عارماً، لن يترك أثراً، وأن الحق إذا كان وحيداً لن يقف أمام حق القوة، وأن الظالم إذا لم يقاوم فمرتعه وخيم، وأن الفساد إذا لم يحاصر سيكون سرطاناً لا يمكن مقاومته.
لقد أصبح جزءاً من الفهم أن منهجك إرهاب، وخيرك قناة تدعم الإرهاب، وضاعت المفاهيم بين إفراط في الغلو، وتفريط في الالتزام، بين تقاليد راكدة تعيق الحركة، وتقاليد وافدة تصد عن المنهج، ومع كل هذا تبقى يا سيدي يا رسول الله، نبع مسيرة النهر المستمرة، وعنوان الحب إذا ضاقت مساحة الحب، وشذى الوفاء إذا عز الوفاء، ورمز التضحية إذا قل الفداء ويبقى أتباعك من أمتك والإنسانية يهتدون بهديك إلى يوم الدين.