لم يبق في العمر الكثير فهاهما يودعان الشباب ويستقبلان شيب الرأس وانحناء الظهر وألم المفاصل، وتحدثك خطوط وجهيهما عن حكايتهما؛ فهي تهيم في عالمها البعيد، أما هو فجذوة الحب لم تنطفيء في قلبه بعد، تراها في عينيه حين ينظر إليها، وفي اهتمامه الذي يحيطها به وخوفه المفجوع عليها، يبحث عن اسمه في ذاكرتها ويبحث عن ملامحه وقصة حبه في عينيها، يبحث عن تفاصيل لم تعد تدركها فلا صور لديها لسهر أو قمر أو لقاء، تهيم عيناها في الفضاء وتحدق في غير اتجاه، تعبر روحها بين الأزمان وتطوف البلاد لتلتقي بأطياف من الماضي تحدثهم وتبحث عنهم، أما هو فقد محاه الزمان وصار نسيا منسيا. يؤلمه بعدها عنه رغم أنها تحتل المقعد المقابل له، هي لا تشعر بوجوده أما هو فلا يشعر إلا بوجودها، ولكنه يفقد معنى الحياة والوقت بعد أن فقدت قهوة الفجر معها رائحة البن وعبق أزهار الحديقة، فأصبحت قصتهما كخطوط ترسمها غجرية فوق رمال البحر فتمحو الأمواج كل أثر لها.
نعم كما تمحو الأمواج أثر ما نرسمه على الشطآن يمحو مرض الزهايمر ذاكرة المريض المرحلة تلو المرحلة، ويبدأ شبح النسيان بالعبث في الذاكرة الحديثة ليترك المريض غريبا بين أهله، فهو لا يعرف ابناءه كبارا ولا يميز أولادهم ولا زوجاتهم، بل هو يبحث عنهم صغارا وينتظر عودتهم من مدارسهم كل يوم ولكنهم لا يأتون، تضيق به الدنيا بعد أن أضاع أولاده وبيته الذي ألفه وقريته التي نشأ وشب فيها، لماذا لا يعود أولاده هو لا يعرف، من هؤلاء الذين يحيطون به ويعاملونه كرهينة ومن أعطاهم الحق باحتجازه لديهم وما هو السبيل للتخلص منهم ، لماذا لا يتركوه كي يعود إلى قريته وإلى بيته القديم وإلى حضن أمه؟
يعود مريض الزهايمر في ذاكرته إلى الوراء فيقابل في كل مرحلة من مراحل المرض أطيافا لأشخاص ربما لم يعودوا على وجه الأرض ولكنهم عالمه الذي يعرفه ويألفه فيحدثهم ويتعامل معهم على أنهم هم الحقيقة، فهذا ما يعرفه وهذا ما توفره له الذاكرة فلماذا لا يرى الآخرون حقيقة ما يراه هو، لماذا يجد صعوبة في التواصل مع المحيطين به، أين الحلقة المفقودة هو لا يعلم. يستمر الدماغ بالضمور وتستمر الخلايا بالموت لتدفن مع كل موت لها مرحلة من مراحل حياة المريض، ثم يطال الموت أيضا خلايا مسؤولة عن وظائف الحركة والبلع والوظائف الرئيسية البسيطة التي يجب أن يؤديها الجسد لتستمر الحياة، فيصل المرض بالمريض إلى أسوأ المراحل على الإطلاق.
خلال معركة المريض مع المرض تبدأ معاناة الأهل أيضا، ما بين واجبهم بحماية المريض حتى من نفسه وما بين إدراكهم للمرحلة التي وصلت لها الذاكرة في رحلة تقهقرها للوراء. إدراك الحالة التي يمر بها المريض من قبل المحيطين به تساعده على اجتياز المرحلة بنسبة أقل نوعا ما من التخبط والضياع عن طريق مشاركته أفكاره وذكرياته الحالية بدل أن يشعر بالمسافة الهائلة التي أصبحت تفصله عن محيطه. كما أن إدراك الأهل ووعيهم بطبيعة المرض يساعدهم على الاستعداد للتعامل مع كل المتغيرات السريعة التي سيمر بها المريض.
سارق الذكريات يختبيء بيننا لا يقف في طريقه عمر ولا جنس ولا مكانة اجتماعية، فهو قد يسطو على ذاكرة الشباب ليمحوها دون رحمة وقبل أن يترك لهم فرصة ممارسة العيش واختبار الحياة، أو قد يسطو على ذاكرة عالم أو مفكر أو سياسي فلا يحترم تاريخا ولا عبقرية ولا ذكاء، يأتي على كل فكرة اجتهد صاحبها ليخلقها فيحيلها إلى رماد. يقوم بعض المصابين بالمرض بكتابة مذكراتهم ووصاياهم ويقوم البعض الآخر بكتابة رسائل لأولادهم أو لأحفادهم يخبروهم فيها عن مشاعرهم لو أنهم أدركوا نجاحهم أو زواجهم أو أي من مناسباتهم الجميلة. بعض المرضى يودعون أصدقاءهم لأنهم يدركون أن هذا المرض ذاهب بهم في رحلة اللاعودة إلى المجهول فيختار هؤلاء خوض التجربة مع عدد قليل فقط من أقرب المقربين إليهم مع علمهم المسبق لما سيسببه مرضهم هذا من آلام لهم ولأحبائهم.
لكل منا فسحة من العيش يتمنى أن يمضيها بكرامة، فإذا كنا نحن من سيختاره سارق الذكريات ليكون ضحيته القادمة فكم نتمنى على أحبابنا أن يصونوا كرامتنا ويحترموا ضعفنا ويداروا عوراتنا، ولكن لو قدر لنا أن نكون نحن على الطرف الآخر من المعادلة فعلينا نحن أن نقوم بأسمى مهمة إنسانية ونصون كرامة من وضعتهم الأقدار تحت رحمتنا.