طملية .. عندما يصيدون الطائر بعين حاسدة15-10-2008 03:00 AM
من المعيب أن أكتب عن رجل لا أعرفه ، ولكن يشفع لي أول لقاء به في مبنى جريدة صوت الشعب الراحل عام 1988 ، حيث كان هادئا أكثر من هدوء دخان سيجارته ، .. كنت للتو قادما من بين كتب الصحافة لأراها على حقيقة الألم حيث يصنعها أناس حقيقيون يعيشون بيننا ، غير أولئك الذين نقرأ لهم على صفحات كتب صماء ، وكان " محمد طمليه " غفر الله له ورحمه ، واحدا من هؤلاء الآدميون الذين بدأت أقرأهم بصمت عبر أوراق صامتة ، لتلد فينا أسئلة ثرثارة ذات ألسنة طويلة . لم يطل بي البقاء أمام طاولته الخشبية ، في غرفة لا زلت أتخيلها كالحلم ، وكنت قد وقفت قبل شهرين من اليوم طويلا أمام مبنى الجريدة " وخازوق البيع " يدق أست المبنى الذي خرّج أجيالا من الكتاب والصحفيين والحالمين بوطن مضيء في عتمة العمر .. وقفت طويلا ، وعلمت حينها كم أنا عاق .. فكيف بي لم أجرؤ على الولوج داخل ذلك المبنى المهجور واسترجاع ذكريات الصبا وطفولة الصحافة ، قبل أن أسجن في هذا المعتقل المفتوح ، ولعل للأسماء عقدة لدي ، فمنذ تحول المبنى الى جريدة الأسواق آمنت بسقوط إحدى قلاع الصحافة الأردنية ، وايقنت ان تلك الجريدة التي امتازت بصفحة غلاف ذات لون محمر ، ليست سوى شواء الصحيفة التي تعرفنا بها على أساتذة القلم والصحافة الأوُلّ .. حيث كان طمليه هناك ، رغم صعوبة لفظي لأسمه ، فقد كان أول عهدي بالمقالة الساخرة ، وكتبتها بالسهل الممتنع ردحا في الصحافة الصحراوية الشرقية ، قبل ان أسلم قلمي لهذا الوطن الغارق بحزن الفراق . لن أزجي التحايا لروح الفقيد ، ولن أقف خطيبا مؤبنا إياه ، ولن أقرض الشعر لروحه ، ولكن .. هي الأقلام الصادقة تموت واقفة .. فكثير من رفاقه وأصدقاءه وأحبابه والزملاء أبنوّه بوداعيات يرق لها القلب وترقرق لها العيون .. ومن وحي رحيل هذا الكاتب الجاثم على صدر اللامبالاة سأكتب أسئلة وقحة : فلماذا لا يكرّم الإنسان عندنا إلا بعد أن يموت ؟ .. لماذا لم يوف حقه في حياته ؟ لماذا يتخلى الجميع عن الكاتب المنتصب كالرمح بين حياة مليئة بصخب الحاجة وحياة فارغة من مبدأ الإخلاص للمبدأ ؟ لماذا يهب الناس لإنقاذ جثة سقطت على رصيف الحياة ، بعدما نخرها سوسهم ، ووسواسهم ، وسهامهم ، ونهشتها أسنانهم ، وشاركوا كلهم في موتها قبل ان تموت .. وينسونها طيلة الحياة وهي تبتسم في وجوههم البائسة . لماذا الجميع يريدون من الكاتب أن يتصدى لكل ما يضيرهم وما يضرهم ، ومالا يعجبهم ، و ان يكون فدائيا دائما يدافع عن معاقلهم ، وان يتحول الى " حارس " يقظ ، يدير ساعات النهار على توقيت مصالحهم . ثم إن وقع لا تمتد له يد لترفعه ، ولا لسان ليواسيه ، ولا لنخوة فتنتصر له ، ولا لخطة رسمية فتمنحه حقه .. سحقا لهم يا محمد .. وبئسا لمشاعرنا الكاذبة ، نتباكى على الميت في موته الذي استراح من كذب حياتنا ، وأمضينا الحياة نابذين لكل ما يمت له بصلة ، حتى سماع صوته .. هذه حياة أمتنا : فارسها مذبوح ، وكريمها مفضوح ! نضرع لمن خلقك وأماتك ، وسيحييك تارة أخرى ويميتنا ، أن يكون مرضك كفارة لما اقترفت في حياتك المعلبة ، وأن يطهرك من ذنوب قد حاقت بك بإرادة ودون إرادة ، وأن يزد في حسناتك ، ويبلغك رضوانه ، ويلحقك بالصالحين ، فأنت ضيف على رحمن رحيم .. وأنت ميت ونحن ميتون ، فلا تشتكي بعد اليوم ، فنحن الشاكون ، وان كان قبرك ضيقا ، فحياتنا أصبحت أكثر ضيقا من قبر أنت فيه مدفون . |
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * |
بقي لك 500 حرف
|
رمز التحقق : |
تحديث الرمز
أكتب الرمز :
|
برمجة واستضافة