لم يكن وصفي التل ذا شأن رسمي كبير في الأردن ، حين استهدفته الدعاية المصرية ، فقد كان مجرد موظف من الصف الثالث او الثاني في جهاز الحكومة ، ينقل من مكان الى مكان ومن سفارة الى سفارة بقصد ابعاده عن الساحة بسبب ارائه السياسية ، غير انه من منفاه البعيد في بون ، سيكون قادرا على ازعاج حكومة سليمان النابلسي المؤيدة او الموالية لعبد الناصر.
ففي احدى رسائله من بون الى عبد الحليم النمر " نائب النابلسي" ، يكشف التل عن عمق الفجوة الفكرية والسياسية بينه وبين حكومة بلاده ، ولم يتورع عن انتقاد اقطاب تلك الحكومة بشكل حاد وعلى رأسهم النابلسي نفسه وشفيق ارشيدات. كما يكشف التل بوضوح عن استعداده المبكر لمجابهة المد الناصري الطاغي ، بوصفه مدا خطابيا دعائيا يستنزف عواطف الجماهيرويجرها الى الهاوية ، ولا يستند الى مرتكزات فعلية او فهم موضوعي لطبيعة الصراع في المنطقة والعالم ، حسب وصفي.
ولأن عبد الناصر في ذلك الوقت كان اضخم من ان ينتقد سياساته احد ، كان لا بد من حرق وصفي التل بالتهم الرائجة انذاك وهي الخيانة والعمالة والرجعية ، فاستغل الاعلام المصري واذرعه العربية ، موضوع خدمة وصفي السابقة في الجيش البريطاني كمادة دعائية ضده. وسيصل الامر الى حد ان عبد الناصر شخصيا سيضع التل على قائمته السوداء ، وسيعترض على توليه رئاسة الحكومة في الاردن من اول مرة ، وسيظل يعترض على وجوده في الحكم الاردني حتى وفاته.
ورغم اختلال موازين القوة الدعائية بين الرجلين لصالح عبد الناصر ، فقد امكن لوصفي ان يجابه الدعاية المصرية ، بأدواته البسيطة عبر "اذاعة سلوى" ، فقد كان المعلق المصري الشهير احمد سعيد يطلق على الاذاعة الاردنية لقب اذاعة سلوى للسخرية ، وسلوى بالطبع هي المطربة الاردنية المعروفة التي كانت قادرة بأغانيها العذبة ان تقلق اذاعات ام الدنيا!
وحين يتولى وصفي رئاسة الحكومة عام 1962 سيواصل المجابهة مع سياسات عبد الناصر وسيقول علنا بأن عبد الناصر سيندم على تدخله في اليمن ، وسيرد على محمد حسنين هيكل بأننا جميعا كيانات غير طبيعية ، وان الكيان الطبيعي الوحيد هو الدولة العربية الواحدة ، وسيفند على الملأ تقارير وكالة الشرق الاوسط المصرية ، وسينتخي على الطريقة العربية الاصيلة وهو يخوض مواجهاته المستمرة مع القاهرة ، حتى يقول في احد مؤتمراته الصحفية : لحّد وأنا أخو علياء زلمتنا بميّة!
لم يكتف وصفي بالتعادل ابدا ، فقد كان مؤمنا الى حد اليقين انه على صواب وان عبد الناصر على خطأ ، ولأنه يدرك خطورة الانجرار وراء عبدالناصر، فقد اعترض بكل قوة على التورط بحرب حزيران. ومن روائع تدقيقه في الاشخاص وصفه للقائد المصري للجيش الاردني في تلك الحرب الفريق عبد المنعم رياض ، بانه من النوع الذي يحاول ان يدخل في روعك انه يعرف اكثر بكثير مما يعرف حقا ، فقد لاحظ وصفي بدقة تلك الفجوة القائمة بين المعرفة الحقيقية التي يمتلكها رياض فعليا ، وذلك المستوى الذي حاول التظاهر به امام الاردنيين.
حتى وفاته في نهاية ايلول عام 1970 ظل عبدالناصر يعترض على وصفي التل ويمانع في حضوره الى القاهرة ، وكان يعبرعن اعتراضاته هذه في اتصالاته مع الملك الحسين ، حتى صارمعروفا للناس ان خروج وصفي من الحكم يعتبر تمهيدا او شرطا لأي تحسن للعلاقات بين البلدين.ويقول هيكل في هذا الصدد ، ان عبد الناصرغضب بشدة ، حين أبلغه رئيس الاركان المصري بأنه شاهد وصفي في قصر الحمّر في ايلول عام 1970 ، وانه تعهد بقطع العلاقات مع الاردن اذا ما تولى وصفي تشكيل الحكومة.
وهو ما جرى بالفعل فقد شكل وصفي الحكومة وسحبت مصر سفيرها من عمّان ، فلم يكن السادات في بداية عهده قادرا على كسرمحظورات عبدالناصر الذي توفي في ايلول 1970 ، كما اعترض السادات مرتين على حضور وصفي الى القاهرة مع الملك الحسين ، وفي المرتين الغيت زيارة الملك الى القاهرة. وخلال احدى زيارات الملك الحسين الطويلة الى الخارج عام 1971 دعاه السادات علنا للعودة الى بلاده ووضع حد لرئيس وزرائه ، فرد الملك الحسين فورا بتوجيه رسالة تأييد علنية من خارج البلاد الى رئيس وزرائه.
لذلك يرى هيكل ان حضور وصفي الى القاهرة كان استفزازا لمصر، فالرجل المرفوض حضوره لمرتين قبل قليل بصحبة الملك ، ها هو يتعمد الدخول من بوابة الجامعة العربية حيث لا تستطيع مصر ان ترفض. ونفهم من مقال هيكل حول حادثة الاغتيال في حينه ، ان حكومة مصر شعرت بالاستفزاز والتحدي من قبل وصفي ، فتهاونت على الاقل بتوفير اجراءات الحماية اللازمة له ، او غضت النظرعن ترتيبات عملية الاغتيال التي لم تكن سرية تماما. فقد وجدت مصر نفسها في مأزق بينما كان رئيسها الجديد انور السادات لا يزال يحاول تثبيت نفسه في فراغ عبدالناصر الكبير ، فلا هي كانت قادرة على منع الرجل من الدخول ولا هي كانت قادرة على تقبل دخوله.
هل وصلنا الى حد التمجيد ، ام اننا نعرض لحقائق قابلة للتأكد من صحتها ، ألم يراهن وصفي في كل مواجهاته على الحقيقة ، أليست الحقيقة كالذهب، والذهب يبقى ذهبا ولو جهلوه او سحقوه او حتى دفنوه ، ألم يكن وصفي التل يرى المستقبل وهو يخوض مواجهاته على جميع الجبهات ، وهل تفاجىء احداث المستقبل احدا سوى المتوهمين؟!
مات الجميع بالسيف او بغيره ، لكن وصفي كقليلين من القادة في التاريخ بقي حيا على كل شفة ولسان ، فهاهي ذكراه تكبربعكس قانون الزمن ، ليس لانه اغتيل فقط ، بل لاسباب اهم وابقى ، فالناس كما نعرف لا يتذكرون عمر بن الخطاب حتى الان بوصفه حاكما قضى اغتيالا ولكنهم يتذكرونه لاسباب هي الاهم وهي الابقى في هذه الدنيا الفانية.