الأزمة العالمية ، فلنعالج أزماتنا أولا
سامر حيدر المجالي
13-10-2008 03:00 AM
من بركات الأزمة الاقتصادية العالمية أنها كشفت عن مواهب اقتصادية فذة وجمهرة عظيمة من المحللين الذين لا تخفى عليهم شاردة ولا واردة في عالم المال وأسواقه . فعلاوة على العدد الهائل من المقالات التحليلية ، شاهدت بالأمس برنامجا حواريا تحدث الضيف خلاله بإسهاب عن واقع الأزمة وتداعياتها ، اكتشفت خلال الحديث أن الضيف طبيب بشري ، وأن لا علاقة له بعالم الاقتصاد من قريب أو بعيد .
عجبا لهذا الواقع ، واقع مثقفي الدرجة الثالثة وما أكثرهم في كل زمان ومكان . زمان كان يلزم أحد هؤلاء المثقفين أن يلقي بيتين من شعر أحمد مطر أو يسرد حديثا سطحيا عن سيرة المناضل تشي غيفارا ، كي " يَهُتَّ " عليك بعلو كعبه المعرفي وانتسابه إلى عالم الثقافة والمثقفين .
اليوم أضيفت أشياء جديدة ، باتوا يتحدثون عن الليبرالية الكينزية وعن ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة . أصبحت الأحاديث المتخصصة مشاعا لكل من هب ودب ، فقدت المعلومة عذريتها وأصبحت بغيا مقدسة يرتادها كل الباحثين عن الطهرانية المزعومة ، فلا عجب إن وجدتنا دائما في أدنى درجات السلم الحضاري .
خلال كتابة هذه السطور وردني النبأ الفاجع ، رحيل المبدع محمد طمليه . قرأت له كثيرا ، وأهم شيء استوقفني مما له علاقة بحديثنا السابق هو اعترافه في غير مقال بأنه لا يفهم شيئا في عالم السياسة . هكذا يكون المثقف وهكذا تكون الموضوعية والثقة بالنفس . لماذا يسيطر على أغلبنا هاجس " أبو العرّيف " الذي لا تفوته شاردة ولا واردة من قضايا الكون . بعض الناس يستمتعون بلعب هذا الدور ويصرون عليه إصرارا مجحفا . وأدين هنا بنقطتين الأولى للصديق عاطف الفراية فقد قرأت له في أحد المرات شيئا عن أحد هؤلاء وقد أنبرى للحديث عن الكوميديا الإلهية فجاء خلال حديثه بعجب عجاب . والثانية للصديق هشام غانم الذي نبهني ذات مرة إلى انتشار ظاهرة ( المداخلاتية ) في ندواتنا ونشاطاتنا الثقافية .
خلاصة القول أن البعض يهمه أن يتكلم فقط ، حتى لو كان كلامه حشوا أو دون درجات الحشو بمراحل . على فكرة ، الكتابة الالكترونية كشفت الكثير من عيوبنا واستهتارنا بقيمة الكلمة ، فقد أصبح الفضاء مفتوحا والصوت قادرا على أن يصل إلى أكبر عدد من المستمعين . أصبح البعض وكأنهم في سباق مع الزمن ، يلوكون مقالات بعدد حبات المطر ، يأتون خلالها بما شئت من الأخطاء النحوية والإملائية ، ناهيك عن الفضائح المعرفية . بعضهم يخطئ حتى في كتابة العنوان ولا يقوم بأدنى مراجعة لما اقترف من ذنب بحق نفسه وحق الإنسانية من حوله . آراء وآراء وآراء ، وأحكام مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، من أين يأتون بكل هذه الثقة في ما يطلقونه من أحكام ؟ ثقة لا يكاد يبلغها إلا أولو العزم من الرسل . إذا كان صاحب الكلمة نفسه مستهترا بكلمته وقيمتها ، فلمَ يُلامُ القارئ أو المستمع ؟ أجزم أن ما قاله إبراهيم عيسى في أحد برامجه صحيح تماما ، فقد قال أننا نعيش في زمن لا يقدر قيمة الكلمة فيه إلا جهة واحدة ، إنها الأجهزة الأمنية ، ولا شيء غيرها .
نعود إلى موضوع الأزمة المالية العالمية ، بعض الناس عندنا يطيب لهم أن يتحدثوا عنها بأسلوب لا يخلو من الشماتة ويستبشرون خيرا منذرين بقرب انهيار العالم الرأسمالي . ويزيد القضية تعقيدا أن بعضهم يربط الشأن الداخلي بالشأن الخارجي فيتحدث عن سقوط مدرسة الليبراليين الجدد هنا وهناك . نترك هذا الكلام بدون تعليق لأننا لا نشك في أن النظام الرأسمالي بصيغته المتوحشة كما نظَّرَ لها فون هايك وفريدمان وتبنى تطبيقها مارجريت تاتشر ورونالد ريغان وجيل من التلامذة بعدهم ، هذا النظام يحمل في داخله بذور الهلاك والفناء ، ولا قدرة له على الاستمرار طويلا في ظل تفاقم الفوارق الطبقية وسيطرة أقلية شرهة على قطاع المال والأعمال .
السؤال المهم هنا : ما الذي سيتغير عندنا حتى لو سقط ألف غرب رأسمالي وقام مكانه ألف نظام آخر ؟؟ هل سنكون قادرين على احتلال حيز من التاريخ نبني خلاله وجودنا ونشارك بفعالية في رفد مسيرة الإنسانية ؟ أم أننا سنبقى منفعلين فقط ؟ أفئدتنا هواء وتغشى وجوهنا النار . داخليا : هل رحيل فلان ومجيء علان سيغير من واقعنا شيئا ؟ هل المشكلة مشكلة أشخاص ؟ أم هي مشكلة طريقة حياة وأسلوب تفكير ؟ لماذا نخلط الأمور ببعضها ونبني قصورا في هواء خانق حاجب للنور وأشعة الحقيقة ؟ أتمنى أن نكف لحظة واحدة عن التنظير ، وننقد واقعنا نقدا حقيقا بأن يخرجنا من غياهب العمى والضلال .
فليكف المستنجدون بماركس عن الاستمرار في حفرياتهم التاريخية التي أكل الدهر عليها وشرب ، وليحذر مروجو العولمة من أن يكونوا جسر عبور إلى عالم هو في حقيقته مجموعة من جمهوريات الموز الدائرة في فلك القطب الأوحد .
samhm111@hotmail.com