في الثامن والعشرين من نوفمبر تحل ذكرى اغتيال رئيس وزرائنا الراحل وصفي التل، ونحتسبه عند الله شهيدا. الأردنيون أحبوا وصفي قبل اغتياله الآثم، والناس في الأردن تعلقت بأبي مصطفى قبل أي أحداث شغب وأمن داخلي تم إلصاق مزاعم وهمية عنها بشخصه رحمه الله.
لا يمكن للحب ان ينبع من كراهية ما، وسبب حب الناس لوصفي التل لم يكن مصدره مواقف حاسمة باسم الدولة الأردنية كان هو أهلا لها كما كان كل رجال الدولة آنذاك لحفظ النظام واستتباب الأمن، فحسب بل كان الناس يحبون رئيس الوزراء الأردني وصفي التل لأنه كان نزيها ونظيفا، وكان صاحب مدرسة في الإدارة العامة الأردنية تنصر الضعيف وتستقوي على المستقوي.
كان الناس يشاهدون وصفي التل بينهم، وهناك حكايا كثيرة ما يزال شهودها أحياء يرزقون، وقصص كثيرة تعج بها البيوت الأردنية التي قلما يخلو بيت منها من صورة لوصفي مع رب المنزل في شبابه، وقد التقى وصفي في مناسبة ما، وجالسه وحدثه، مما شكل في الذاكرة الجمعية للأردنيين على مختلف طبقاتهم ومشاربهم وأصولهم صورة انطباعية عن رجل بحجم الدولة فعلا، ومتواضع بهيبة الدولة ذاتها.
..بعد مقتل وصفي غدرا، في القاهرة، كان الحزن عاما، وشاملا، ولا يزال وصفي في الذاكرة الشعبية الأردنية مقترنا بالاحترام والمهابة كرئيس وزراء نزيه لم يترك وراءه أطيانا ولا عقارات ولا أموالا، ويحب الأردنيون أن يتفاخروا بوصفي كفلاح رحل عن الدنيا مديونا لا فاحش الثراء.
المشكلة تجاوزت رصاصة قاتل وصفي التي أدمت قلوب الأردنيين، إلى أن البعض استمرأ أن يعيد إنتاج وصفي كحالة سياسية متأزمة، ويستخدمون وصفي بغير ما كان عليه هو ذاته رحمه الله.
الأردنيون أحبوا وصفي التل، فقط لأنه كان ضد الفساد، قولا وفعلا، ولم يذكر عن وصفي حكاية واحدة تثير حوله شبهة فساد أو مظنة سوء أخلاقية، فكان مثالا للرجل العفيف النظيف، وهذا ببساطة هو سر حب الناس لوصفي. البدلة السفاري، وقلاية البندورة في مزرعته الصغيرة، ولهجته الحاسمة والمحببة، وبابه المفتوح على الجميع بدون استثناء، وكرهه الشخصي لمظاهر الترف كانت كلها عوامل شكلت صورة وصفي في الخيال الأردني، وقد كان كل ذلك.
وصفي التل، صاحب مقولة عمان، هانوي العرب بمعنى أنها نقطة ارتكاز النضال والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ذات زمن كان فيه نضال ومقاومة، لا يمكن ان يكون إلا منسجما كصورة مع تلك المقولة وتلك الرؤية التي كان صاحبها، وتجيير وصفي التل لأي مربع سياسي مختلف، مرفوض، لأن وصفي التل كان رئيسا لوزراء المملكة الأردنية الهاشمية لكنه كان أيضا مجرد رجل نظيف وعفيف ونزيه، ولذا هو أيقونة يجب على كل الأردنيين أن يفخروا به ويحيوا ذكراه الطيبة، ومرة أخرى، ونحتسبه عند الله شهيدا!